المزارعون يبحثون عن مسار جديد بعيداً عن التمويل الحكومى
إعادة توجيه الدعم وتنويع اقتصاد الريف خيارى لندن للخروج الأوروبى
مساهمة الزراعة فى الناتج القومى أقل من 1%
3.1 مليار دولار دعم الدولة للأنشطة الزراعية
للحصول على لمحة عن حجم الهزة والفرص فى الريف الانجليزى، والتى قد تنجم عن الخروج البريطانى من الاتحاد الأوروبى يجب النظر إلى أبعد من مزرعة الآيس كريم الواقعة بالقرب من قرية تاتنهال فى تشيشاير، شمال غرب انجلترا، وعموماً فإن هذا الخروج وضع القطاع الزراعى البريطانى على شفا ثورة شاملة قابلة للحياة وللموت أيضاً.
كانت المزرعة عبارة عن مجموعة عائلية تضم 350 بقرة فى الثمانينيات عندما قررت الحكومة خفض الدعم وإدخال نظام حصص إنتاج الحليب وقد تحول المكان الآن إلى مصنع الآيس كريم جنباً إلى جنب متنزه يجذب الزوار الأجانب، والذى يدر دخلاً سنوياً 6 ملايين جنيه استرلينى، لكن بقيت بعض الأبقار القليلة كجزء صغير للجذب السياحى.
يقول جوناثان فيل مدير المزرعة، إن تطبيق نظام حصص الإنتاج جعل أعمال إنتاج الحليب فجأة أقل ربحية، وكان يجب البحث عن طريقة لإضافة القيمة وباعتبارها مزرعة ألبان كانت تستخدم 3 موظفين لكن بعد تطويرها بلغ العدد 292 فى ذروته.
بالنسبة لمعظم الاقتصاد، تبدو حكومة المملكة المتحدة عازمة على الاستمرارية، وليس التغيير من جهة لوائح التنظيم بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى، ولكن بالنسبة للزراعة، التى تمثل أقل من 1% من الناتج القومى بعد عقود من تدخل الدولة، هناك فرصة أكبر بكثير لإصلاحات ضرورية لتحرير القطاع.
وعلى مدى عقود، ركزت السياسة الريفية فى بريطانيا على دعم المزارعين بعد انضمام المملكة المتحدة إلى الجماعة الاقتصادية الأوروبية آنذاك وسياساتها الزراعية المشتركة فى عام 1973، فتم عزل قطاع الزراعة أيضاً من المنافسة الأجنبية بفضل التعريفات الجمركية على الواردات.
وعند مغادرة الاتحاد الأوروبى، سيتعين على الحكومة أن تقرر بين إعادة بعض الإعانات الأوروبية والحواجز التجارية التى تدعم العديد من مزارعها أو السماح لقوى السوق بدور أكبر فى هذا القطاع. وسيتعين عليها أيضاً التوسط بين بعض جماعات المصالح البارزة والمصالح الأوسع نطاقاً فى الريف التى غالباً ما تكون أقل تنظيماً.
وفى حديثه الأسبوع الماضى قال مايكل جوف وزير البيئة والغذاء والشئون الريفية، إن نهج الحكومة فى الزراعة بعد أن ينتهى نظام الحصص الحالى فى عام 2022 ستؤكد الحكومة على الحفاظ على البيئة، وستوجه الإعانات إلى المزارعين الذين يعززون البيئة الطبيعية، مثل زراعة الغابات أو إنشاء نطاقات جديدة للحياة البرية.
وقال تقرير صحيفة فاينانشال تايمز، إنه بينما تتحدث الحكومات عن لعبة جيدة حول تشجيع نمو ريفى أوسع، فإنها نادراً ما تدعمها بكميات كبيرة من المال أو الرغبة فى تحدى لوبيات قوية.
يقول مارك شوكميث، مدير معهد التجديد الاجتماعى بجامعة نيوكاسل: «لقد استولت المصالح الزراعية والبيئية على النقاش برمته حول الريف، فى حين تم إهمال الاقتصاد الريفى الأوسع نطاقاً.
وتعود فلسفة السياسة الريفية إلى تقرير سكوت لعام 1942 حيث حاصرت قوانين التخطيط اللاحقة للحرب المناطق الريفية ضد تيار التنمية بحجة الحفاظ على الرقعة الزراعية وقد تم منح عقود إيجار مدى الحياة للمزارعين طالما أنهم وافقوا على استخدام الأرض لزراعة الغذاء بهدف تحقيق الاكتفاء الذاتى.
ولم يكن بوسع واضعى التقرير، أن يتنبأوا اليوم بتوسعات الصوبات البلاستيكية، ومزارع الألبان الصناعية ذات الحلب الأوتوماتيكى باستخدام الروبوت.
وتمثل المدفوعات الحكومية للزراعة، التى بلغت 3.1 مليار جنيه إسترلينى فى عام 2016، أكثر من نصف إجمالى الدخل البريطانى من المزارع، ومع ذلك فشلت 26% من المزارع البريطانية فى التعادل حتى ذلك العام، وأكثر من ثلاثة أرباع المجموع هى مدفوعات تستند ببساطة إلى مقدار الأرض التى تستلمها المزارع المتلقية أو تستخدم لدعم أسعار الإنتاج، ويواصل أقل من الربع دعم أهداف أخرى، بما فى ذلك حماية البيئة وتشجيع التنوع الاقتصادى.
وسيؤدى سحب الدعم أو إعادة توجيهه، والحد من الحماية ضد الواردات، إلى إصابة قطاعات معينة بجهد خاص، وتستفيد تربية الأبقار والأغنام وإنتاج الألبان وبنجر السكر من الكثير من الإعانات المقدمة، كما أنها محمية أيضاً ببعض التعريفات الجمركية الأعلى للاتحاد الأوروبى، وهذه القطاعات نفسها معرضة للتنافس مع المصدرين الزراعيين ذوى القدرة التنافسية العالية فى بلدان مثل الولايات المتحدة وأستراليا ونيوزيلندا، التى ترغب الحكومة فى توقيع صفقات تجارية ثنائية معها بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى.
وبالرغم من ذلك كانت هناك بعض النقاط المضيئة فى الزراعة البريطانية، فقد أدت التحسينات فى تكنولوجيا الصوبات البلاستيكية إلى زيادة سريعة فى إنتاج الفواكه اللينة، مما مكن المملكة المتحدة من أن تنمو أبعد بكثير من الفراولة والتوت البرى الخاص بها، لكن انخفاض الهجرة بسبب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى بالفعل حرم المزارعين من جمعها بشكل كامل مما ترك الفاكهة تتعفن فى الحقول.
وهناك بلدان أخرى تمكنت من تحقيق زيادات سريعة فى القدرة التنافسية الزراعية إلا أن الابتكار فى مجال زراعة البساتين البريطانى لايزال قطاعاً صغيراً، ومن غير المرجح أن يشهد طفرة وشيكة بسبب تراجع أشكال الزراعة الأخرى، خاصة مع التركيز على تعزيز مزارع الثروة الحيوانية وزراعة الحبوب القائمة والتى تسهم فى زيادة فرص العمل.
وفيما يتعلق بالإعانات البيئية، فإن هناك مخاوف من أن تخلق أيضاً ريفاً يعتمد على هبات الحكومة التى من المحتمل أن تخضع لبعض الضغوط التى يتعين تلبيتها، حيث يقول اللورد دى رامزى، إنه من الغريب أن تستمر أى حكومة فى دفع ثمن للحياة البرية كما تدفع ثمن الغذاء.
وفى ظل هذه الخلفية، تعانى بريطانيا من اتسام الاقتصاد الريفى بأنه غير زراعى على نطاق واسع، حيث يرتبط فى معظمه بقطاع السياحة أو الصناعات ذات الصلة، وخلافاً للزراعة، فإنه غالباً ما يخلق الكثير من الوظائف، ولا يعتمد على الدعم المستمر، وعادة ما يكون حميداً بالنسبة للبيئة.
وقد تمكنت الشركات الجديدة من اكتشاف ذلك الطلب النامى فأقامت شركة “سالى – آن تشيسترز” مزرعة فى تشيشير، على بعد أميال قليلة من معمل الآيس كريم ووسعت مزرعة الألبان فى عام 1995 وأضافت إليها الأسرة والإفطار، ومنذ ذلك الحين أضيفت ستة منازل ريفية ذاتية الخدمة وفى نهاية الممر كانت تجذب الضيوف من بعيد مثل نيوزيلندا والصين، وكذلك زوار العمل فى المدن القريبة.
ولكن الاقتصاد الريفى غير التقليدى تهيمن عليه الأعمال التجارية الصغيرة أيضاً وليس له صوت ضغط موحد، وهذا يعنى أنه غالباً ما تتجاهل الحكومة مصالحه.
وقد ظهر ذلك بوضوح خلال تفشى مرض الحمى القلاعية فى عام 2001 فى الثروة الحيوانية، ودون مراعاة لمصالح المزارعين خصوصاً وأن هذا المرض ليس خطيراً على البشر فتم إغلاق مساحات من الريف إمام الجمهور لعدة أشهر لمنع انتشار العدوى. وقد أعطى المزارعون فى وقت لاحق أكثر من 1.3 مليار جنيه استرلينى من المال العام لتغطية خسائرهم، وفقدت السياحة الريفية والصناعات المرتبطة بها أكثر من 5 مليارات جنيه إسترلينى من الإيرادات، بالإضافة الى الحد الأدنى من التعويض، ورغم أن هذه الحادثة كانت دعوة لاستيقاظ الحكومة، ولكن الدعم المناسب لاقتصاد الريف المتنوع لايزال غير موجود إلى حد كبير.
ويشير أصحاب الأعمال الريفية إلى وجود مشاكل مستمرة منها ضعف تغطية شبكات الاتصال ذات النطاق العريض، واللوائح التنظيمية العتيقة التى تعرقل تغيرات الاستخدام للممتلكات، والمعارضة المحلية من الجيران، وحملات حفظ السلام، وعدم كفاية وسائل النقل، وقد وعدت الحكومة بدعم النطاق العريض العالمى عالى السرعة بحلول عام 2020، ويقول أصحاب الأعمال الريفية أنهم سوف ينتظرون ما إذا كان سريع وموثوق به بما فيه الكفاية.
وتتعارض مصالح اللوبى البيئى، فضلاً عن مصالح المزارعين، كثيرا مع مصالح التنمية، ويبدو أن جوف يعتقد أن مبدأ “بيئة أفضل” ستعزز الاقتصاد الريفى من خلال جذب المزيد من الزوار إلى الريف، وفى الممارسة العملية، كثير ما يثير الحماسيون البيئيون سبباً مشتركاً مع منظمات مثل حملة حماية إنجلترا الريفية التى تريد تقييد التنمية الجديدة فى المناطق الريفية بدلاً من تشجيعها.
صحيح أن هناك بعض المنح الرسمية لمساعدة المناطق الريفية على التكيف والتنويع بعيداً عن الزراعة، إلا أن الرأى حولها مختلط، ويقول “فيل” صاحب مزرعة الأيس كريم، إن الحصول على منحة تطوير واحدة لبناء مركز تعليمى من خلال برنامج ممول من الاتحاد الأوروبى كان مفيداً، ولكن عملية الحصول على منحة ثانية كانت بطيئة جداً ومستحيلة وبيروقراطية.
ولا شك أن منتجى لحوم الأبقار والألبان ومزارعى البنجر السكرى يواجهون حالة عدم يقين لأن القطاع يصدر إلى الاتحاد الأوروبى، ويمكن أن تنخفض الإيرادات إذا فتحت المملكة المتحدة أبوابها أمام منتجين منخفضى التكلفة من خارج السوق الموحد، ومع ذلك، يعتقد بعض المحتجين المؤيدين لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى أن إزالة الدعم سيحفز الإنتاجية والابتكار.
وعلاوة على ذلك، فإن مبلغ الاموال المقدمة للمنح لن يكفى لتمويل عملية إعادة توزيع أجزاء من الريف، خاصة فى المناطق النائية، وكما يشير لورد دى رامزى، فإن المبيت والإفطار فى الأجزاء النائية من الريف سيكون من الصعب تحويله إلى نشاط سياحى منتعش.
ويمكن أن يصبح خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى فرصة حقيقية لتحرير جزء من الاقتصاد المنظم بشكل مكثف وعلاج تشوهاته على مدار ستة عقود من التدخل من لندن وبروكسل، لكن الكثير من المزارعين ورجال الأعمال يقولون، إن هذا يتطلب الكثير من أجل بناء اقتصاد ريفى جديد متنوع وقوى ينطلق فجأة إلى الحياة بعد سنوات طويلة من الإهمال.