تحدثنا فى المقال السابق عن الخطوط العريضة لما ينتظرنا على الساحة الاقتصادية فى عام 2018 وما يجب علينا توقعه بعدما حددت الحكومة فيما يبدو مسارها النهائى وأظهرت إصرارها على المُضى قدماً فيما تتخذه من إجراءات صارمة تصل إلى القسوة الشديدة فى بعض الأحيان لظنها هى ومعها صندوق النقد الدولى أن سلك هذا الطريق هو ما سينتشل الاقتصاد المصرى من عثرته ويفتح له آفاق جديدة أكثر رحابة.
وربما تكون مسألة زيادة أسعار المحروقات هى الأكثر التصاقاً بالواقع اليومى المُعاش لعموم الشعب المصرى الذى عانى الأمرين من ارتفاع تكاليف المعيشة على مدار سنة 2017 حيث تعدت نسب التضخم حاجز الـ 35% متفوقة بذلك على أكثر سيناريوهات الصندوق تشاؤماً.
وتعهدت الحكومة فى هذا الشأن بإنشاء آلية جديدة لضبط أسعار الوقود دورياً مع مراعاة تغييرات سعر الصرف وكذا تقلبات أسواق النفط العالمية وهو ما سيستتبع – إن تم بالفعل – ليس فقط زيادة جديدة فى أسعار المحروقات بحلول شهر ديسمبر على أقصى تقدير، ولكن أيضاً إعادة هيكلة جذرية لسوق الوقود المصرى الذى سيتخذ حينها شكل مختلف تماماً عن كل ما عرفناه فى الماضى وبصرف النظر عن أسعار منتجاته لأن هذا يُعد بمثابة «تعويم لسعر الوقود» على شاكلة ما يحدث فى دول أوروبا وأمريكا الشمالية منذ سنوات عدة، حيث يمكن أن تتغير أسعار المحروقات ما بين الصباح والمساء، بل ومن شركة لأخرى، مع اختلاف الظروف الإطارية، نظراً لعدم استقرار ولا انضباط الاقتصاد المصرى بما يكفى حتى هذه اللحظة كى يتحمل مثل هذه التأرجحات دون أن يكون لذلك آثار شديدة السلبية على الأسواق ومُقدمى السلع الذين ستنعدم قدرتهم على توفير منتجاتهم بأسعار ثابتة لما يزيد عن يومان أو ثلاثة على أقصى تقدير.
وظنى الشخصى هو أن مثل تلك الخطوة تحتاج إلى البعض من التآنى حتى تستوعب الأسواق صدمات عام 2017 وتكتسب المزيد من المرونة ومساحات الحركة وإلى أن تكون هناك رؤية أكثر وضوحاً لسوق صرف النقد الأجنبى ولأسعار الفائدة التى لا أعتقد أنها يجب أن تزيد بأى حال من الأحوال عن ما يتراوح بين 12.75% و13.75% على الإيداع والإقراض بالترتيب قبل الشروع فى هذا الإجراء.
كما ننتظر أيضاً رفع مسودة قانون البنوك الجديد إلى مجلس الوزراء بنهاية يونيو القادم بهدف تعزيز وتحديث الإطار التشريعى للعمل المصرفى امتداداً لخطوات اتخذتها الحكومة مؤخراً بالفعل لتحسين نظم الحوكمة والشفافية وزيادة مستويات الشمول المالى بالبنوك وإن كان هذا الأمر يُنذر من جانب آخر بصدام مُحتمل جديد ما بين الحكومة وكبريات البنوك التى ترى فى بعض بنود القانون المقترح تدخل غير مقبول فى شئون إدارتها على غرار ما حدث العام الماضى عندما أراد البنك المركزى تقييد فترة قضاء الرؤساء التنفيذيين للبنوك فى مناصبهم بمدة تسعة سنوات كحد أقصى قبل إجباره على التراجع فى ساحات المحاكم.
وبالرغم من اعترافى الكامل بالحاجة الماسة للوصول إلى الغايات المذكورة لأسباب متعددة، إلا أنه لا زيادة الشفافية ولا الحوكمة أو الشمول المالى يحتاجون إلى رفع نسب تمثيل الدولة وأجهزتها الرقابية فى مجالس إدارات البنوك على سبيل المثال بما ينتقص بوضوح من استقلاليتها وهو الأساس الثابت الذى يجب الحفاظ عليه مادمنا لا نريد العودة إلى عصر البنوك الحكومية الخالصة.
أتفهم جيداً رؤية الحكومة فى خصوص مسألة كبح جماح البنوك الهادفة إلى الربح بأى ثمن وبما قد يهدد الصالح العام ويضر بالاقتصاد القومى ككل ولكن أن يُضرب فى سبيل ذلك عرض الحائط بأبسط مبادئ السوق الحر والاستقلال المؤسسى له، فهذا ما يستعصى على فهمى.
أنا شخصياً لست بالضرورة مع فكرة الدفع بالقطاع الخاص إلى مقدمة المشهد الاقتصادى باعتبار أنه القاطرة الرئيسية للتنمية ولكننى أرى ضرورة مُلحة لحد أدنى من الاتساق فى السياسات الاقتصادية، أما «الرقص على السلم» أو محاولة «الإمساك بالعصا من المنتصف» فهى عملية غاية فى الخطورة وقد تأتى بما لا يحمد عقباه.
وللحديث بقية فى المقال القادم إن كان فى العمر بقية
بقلم: محمد شيرين الهوارى
خبير فى الاقتصاد السياسى