سأحاول فى هذا المقال الأخير من مجموع 5 مقالات عن توقعات التغييرات المنتظرة على هيئة وأداء الاقتصاد المصرى فى عام 2018 وفقاً لتصريحات سوبير لال، رئيس بعثة مصر فى صندوق النقد الدولى نهاية شهر يناير الماضى تقييم خاتمة نقاطها ثم الخروج بخلاصة محددة قد تضىء لنا الطريق ولو قليلاً وتعطينا تصور عام عما نحن مُقبلين عليه، عل وعسى أن يُمكن بعضنا من التحوط أو الاستعداد له.
والتزمت الحكومة المصرية بالإنتهاء من تقرير أوضاع المؤسسات المملوكة للدولة لتحسين التنافسية وإتاحة أدوات محاسبة شركات القطاع العام وهى بالطبع خطوة ضرورية إن كنا نريد حقاً وقف النزيف المستمر للمال العام و صرف مبالغ طائلة على شركات منعدمة الكفاءة تقريباً دون أن تكون هناك أى آلية واضحة تمكننا حتى من الوقوف على أسباب ذلك وهو ما لا أعنقد أن الاقتصاد المصرى يحتمله فى هذه الأيام.
ولكن ذلك فى الحقيقة غير كافٍ ما لم يكن هناك طرح واضح ومحدد يتعلق بكيفية الإصلاح الجذرى لهذا القطاع دون أن يعنى ذلك بالضرورة خصخصته، أما مسألة «إتاحة أدوات للمحاسبة» بدون «إتاحة أدوات للتطور» و«تحسين التنافسية» بلا «تحسين للإنتاجية»، فهى رؤية قاصرة لن تؤدى إلى الهدف المأمول أو غيره من الأهداف لأن الأزمة الحقيقية تكمن فى عدم وجود تصور متكامل أو موحد لكيفية التصرف فى هذا الغول الضخم المسمى «قطاع عام» دون افقاد الدولة قدرتها على ضبط أداء الاقتصاد القومى وإيقاعه.
كما أن المؤسسات المملوكة للدولة ليست فقط شركات ومصانع، ولكن أيضاً كيانات خدمية عملاقة مثل البريد والسكك الحديدية التى قام مجلس النواب منذ ايام قليلة بتعديل القانون الخاص بها ليسمح بمشاركة القطاع الخاص، أى كان لذلك من معنى فى نهاية الأمر، سواء أدى إلى خصخصة القطاع بالكامل على المدى البعيد، كما يتخوف البعض أو خلق موجة جديدة من غلاء خدماته،وليست السكك الحديدية هنا إلا مثالاً لما يُمكن أن يحدث فى القطاع العام ككل إذا ما ثبت بأن هذا توجه أكثر شمولاً.
فى الخلاصة أعتقد أننا أمام محاولة جادة لإعادة تأسيس الاقتصاد المصرى، بعيداً عن تقييمنا لمنهج تلك المحاولة أو الفلسفة الكامنة وراءها، وأرى أن المشكلة الكبرى فى الموضوع هو دخول صندوق النقد ليصبح طرفاً فاعلاً فى العملية بشكل أكثر فجاجة حتى مما حدث فى دول أخرى سابقاً.
لا أتحدث هنا عن «استقلال القرار الوطنى» وما شابه من شعارات غير ذات معنى فى وجهة نظرى الشخصية، بل أتحدث عن رؤية أوضحت لنا تطورات الفترة منذ أن بدأ الحديث عن قرض الــ 12 مليار دولار أنها بعيدة كل البعد عن فكرة مراعاة البعد الاجتماعى ومصالح الطبقات الأقل حظاً على المستوى المادى وهو ما تؤكده الإجراءات الجديدة المُزمع تنفيذها فى غضون العام المالى 2017-2018 كما عرضتها على مدار الأسابيع الماضية.
هذا لكون صندوق النقد الدولى لا يعرف سوى الآلة الحاسبة ويتجاهل تماماً البُعد الخاص بتأثير ذلك على دولة ذات هياكل اقتصادية تقوم على الهيمنة الحكومية ويهتم فقط بتطبيق سياساته النيوليبرالية لخدمة أهداف أوسع تتعلق بالاقتصاد العالمى ككل.
وأتفهم جيداً دوافع صندوق النقد فى ذلك؛ فهذا هو الغرض من إنشاؤه أساساً ولكن ما أنا غير قادر على استيعابه هو أن تنساق الحكومة المصرية وراء ذلك بتلك السهولة، لا أطالب بطرد بعثة صندوق النقد غداً ولا أن نوقف التعاون معه حتى ولكن تنفيذ أوامره هكذا دون نقاش أمر ربما يزيد فى بعض الأحيان حتى عن مطالبه ومستهدفاته هو نفسه.
يجب على الحكومة المصرية إدراك أهمية تحويل علاقتها بصندوق النقد إلى علاقة شراكة متساوية تقوم على تبادل بناء لوجهات النظر وعرض للتوجهات المختلفة بما سينتج شكل أكثر اتساقاً مع واقع الاقتصاد المصرى الذى لايزال مهزوزاً بدرجة كبيرة.
كلمة السر هنا إذن هى بلورة رؤية مصرية خالصة قادرة على مجادلة طرح صندوق النقد ومن ثم الخروج بحلول وسط ترضى جميع الأطراف ولو بنسبة ما.
بقلم: محمد شيرين الهوارى
الخبير فى الاقتصاد السياسى