قوانين حماية البيانات تخنق الأعمال التجارية العالمية
مخاوف الأمن الاقتصادى تحكم صراع أمريكا والصين وأوروبا
تجاهل أحكام تحرير تدفق البيانات فى الاتفاقات التجارية
%0.5 خسائر النمو الصينى من توطين البيانات
%10 النمو العالمى من 2005 وحتى 2015 وحركة المعلومات وراء ثلثها
مازالت حرب «حماية البيانات العالمية» فى مهدها، حيث باتت التهديد الأكبر على الأعمال التجارية فى أرجاء المعمورة غير أن مخاطرها تغيب عن كثيرين بما فيها الحكومات.
وفى مشهد مصغر يكشف طبيعة هذا التهديد حيث تشكل الحمائية الرقمية فى الصين تهديداً كبيراً مثلها مثل الحواجز التى تعترض السلع، التى تتأخر فى المعابر الحدودية من قبل موظفى الجمارك الفاسدين بجانب مراجعة الوثائق الورقية بطريقة صعبة.. لكن فى هذه الأيام يتم عرقلة أعمال شركة الشاحنات السويدية بقدر كبير بسبب عوائق «بكين» لنقل البيانات عبر الإنترنت.
وببساطة من المفترض أن يرسل قائد شاحنة «سكانيا» القادمة من الاتحاد الأوروبى بيانات مثل سرعة حركته، واستخدام الوقود، وأداء المحرك وتقنية القيادة إلى مقر الشركة فى السويد، كما تضاف هذه المعلومات إلى قاعدة بيانات دولية واسعة تساعد المالكين على إدارة خدمات أسطولهم، بالإضافة إلى بيانات أخرى تستخدمها لتحسين تصنيع الجيل القادم من السيارات، وتتحمل مثل هذه الشركات فى الصين تكلفة إضافية لتخزين هذه البيانات لإرسالها بعد الخروج إلى مجال يسمح لها بذلك.
يقول هاكان شيلدت من شركة الخدمات المرتبطة بشركة «سكانيا»، إن العالم يتجه نحو نظام نقل آلى وكهربى وهذا يحتاج إلى بيانات، حيث أصبح النقل نشاطاً تجارياً مرتبط بالبيانات.
وتتكلف الشركات مصاريف إضافية لإنشاء التخزين المحلى للبيانات وفصل بعض المعلومات عن بقية عملياتها بسبب فرض العديد من الدول قيوداً تتفاوت شدتها حول نقل البيانات.
ويقدر معهد ماكينزى العالمى أن تدفقات السلع والخدمات والبيانات عبر الحدود تضيف 10% إلى الناتج المحلى الإجمالى العالمى فى العقد المنتهى عام 2015.
وبحسب تقرير لصحيفة «فاينانشال تايمز»، فإن حركة البيانات وراء ثلث هذه الزيادة ويبدو أن حصتها ترتفع مع تباطؤ التجارة التقليدية بحدة فى حين تقفز التدفقات الرقمية، وتجدر الإشارة إلى أنه مع تحول الاقتصاد كله إلى مزيد من المعلومات بما فى ذلك الصناعات الثقيلة مثل البترول والغاز التى باتت مدفوعة بالبيانات فإن تكلفة منع هذه التدفقات تزداد.
ورغم أن عملية إضافة مراكز بيانات محلية جديدة مستمرة فإن الشركات تعمل بكفاءة أقل بكثير إذ أن معلوماتها تعمل بشكل منفصل وتزداد تكلفة خدمة العملاء كما يقول نيكولاس هوداك المسئول الحكومى ومسئول الشئون التنظيمية فى شركة «آى بى إم» فى بروكسل بالنسبة للشركات التى تدير عملياتهم بالكامل فى السحابة الافتراضية «حسابات تخزين المعلومات فى الإنترنت».
وأشار هوداك إلى أنه لا يمكن تقديم خدمات فعالة للعملاء فى مجال الذكاء الاصطناعى أو مساحة التحليلات ما لم يكن يتم نقل البيانات إلى حيث يمكن تقديم أفضل الخدمات لها.
وهنا تظهر خطورة القيود القانونية على نقل المعلومات، حيث تزيد الحكومات بشكل حاد من إجراءات توطين البيانات التى تتطلب أن يتم الاحتفاظ بالمعلومات فى خوادم الإنترنت داخل كل بلد على حدة.
ويحسب المركز الأوروبى للاقتصاد السياسى الدولى، وهو مؤسسة بحثية أنه فى العقد المنتهى عام 2016 تضاعف عدد إجراءات توطين البيانات المهمة فى الاقتصادات الكبرى فى العالم 3 مرات تقريباً من 31 إلى 84 إجراء.
وحتى فى الاقتصادات المتقدمة، فإن تصدير بيانات الأفراد مقيد بشدة بسبب مخاوف انتهاك الخصوصية والتى تم تسليط الضوء عليها من خلال فضيحة تسريب موقع التواصل الاجتماعى «فيس بوك» بيانات لشركة «كامبريدج أناليتيكا» إبان الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة التى فاز بها دونالد ترامب.
وتمتلك العديد من دول الاتحاد الأوروبى قيوداً على نقل البيانات الشخصية حتى لو نقلتها بين الدول الأعضاء وتقدر الدراسات التى أجرتها اللجنة العالمية المعنية بإدارة الإنترنت وهى مشروع بحثى مستقل أن القيود الحالية مثل القيود المفروضة على نقل البيانات المتعلقة بالبنوك والمقامرة والسجلات الضريبية تقلل من الناتج المحلى الإجمالى للاتحاد الأوروبى بنسبة 0.5%.
وفى الصين ثانى أكبر اقتصاد فى العالم تخضع البيانات المحلية لقيود أكثر حدة بالإضافة إلى الضوابط الراسخة حول نقل التكنولوجيا ومراقبة الدولة للسكان، حيث تشكل هذه الإجراءات جزءاً من استراتيجيتها الصناعية التى ترفع شعار «صنع فى الصين 2025»، والتى صُممت لجعلها رائدة عالمياً فى القطاعات ذات التقنية العالية مثل الذكاء الاصطناعى والروبوتات.
وحظرت الصين عبر برنامج «حائط نارى عظيم» معظم تطبيقات الإنترنت الأجنبية، كما فرض قانون أمن الإنترنت الذى تم إصداره فى عام 2016 أيضاً قواعد ضد تصدير المعلومات الشخصية، مما أجبر الشركات بما فى ذلك «أبل» و«لينكد إن» على الاحتفاظ بمعلومات حول المستخدمين الصينيين على خوادم محلية، كما أعطت بكين لنفسها مجموعة متنوعة من الصلاحيات لمنع تصدير البيانات المهمة على أساس الحد من المخاطر الاقتصادية أو العلمية أو التكنولوجية المحددة بشكل غامض على الأمن القومى أو المصلحة العامة.
ويقول هوسك لى ماكياما مدير شركة «اسيب إن آى» العاملة فى الصين «بكين تجد نفسها فى موضع عمى قانونى حيث يمكن أن تنقل البيانات التجارية أو أنشطتها للخارج بأقل من 1%».
وتبدو النتائج مثيرة للدهشة، حيث تمتلك الصين بعض أكبر شركات التكنولوجيا فى العالم بما فى ذلك “على بابا” و”تنسنت” و”بايدو” وهى تؤسس مواقع قوية لبلدها فى قطاعات جديدة مثل الذكاء الاصطناعى.
لكن الاقتصاديين يقولون، إن نمو قطاع الخدمات فى الصين لم يكن حتى الآن كافياً للتخفيف من التباطؤ فى قطع التصنيع بسبب قيود على النقل الرقمى مما دفع غرفة التجارة الأمريكية للتوقع بأن زيادة توطين البيانات سيقلل الناتج المحلى الإجمالى الصينى بما يتراوح بين 1.8 و3.4% بحلول عام 2025.
الأسواق الناشئة الأخرى، مثل روسيا والهند وإندونيسيا وفيتنام، هى أيضاً رائدة فى مجال البيانات، لكن موسكو منعت “لينكد إن” مثلاً من العمل هناك بعد أن رفضت نقل بيانات المستخدمين الروس إلى خوادم محلية.
وتريد منظمات الأعمال بما فى ذلك غرفة التجارة الأمريكية فرض القواعد لترويض ما يسمونه “الحمائية الرقمية”، لكن خبراء تجارة البيانات يشيرون إلى فجوة خطيرة فى طريقة الإدارة العالمية، مع اتباع نهج متشدد لفلسفات مختلفة بين القوى التجارية الكبرى.
وتشير سوزان أرونسون، الأستاذ المتخصص فى التجارة بجامعة جورج واشنطن إلى وجود 3 قوى هى الاتحاد الأوروبى والولايات المتحدة والصين تعمل فى إنشاء مجالات بيانات منفصلة.
والطريقة الأكثر وضوحاً لحماية التدفقات الدولية للبيانات هى الصفقات التجارية – سواء كانت متعددة الأطراف أو الإقليمية أو الثنائية – ومع ذلك فإن قوانين منظمة التجارة العالمية التى تحكم تدفق البيانات هى فقط التى وضعت قبل عصر انتشار الإنترنت ولم يتم اختبارها بدقة من خلال جولات التقاضى العالمية.
ويعمل جاك ما مؤسس موقع “على بابا” مؤخراً على مبادرة للتجارة الإلكترونية، لكن المسئولين المعنيين يعترفون أنه من غير المحتمل أن ينتج أى شىء ملموس لفترة طويلة.
ويرى البروفيسور أرسونسون، أنه فى حين أن البيانات جرت معالجتها بطريقة تقليدية فى صفقات التجارة كمسألة للتجارة الإلكترونية فإنها تذهب إلى أبعد من ذلك بكثير حالياً.
ولطالما كان الرواد والناشطون ينظرون إلى الإنترنت على أنه مجتمع لامركزى ذاتى التنظيم ويميلون إلى اعتبار التدخل الحكومى مسألة مريبة باستثناء دوره فى حماية البيانات الشخصية، ويخشى الكثيرون من صدور تشريعات لتمكين تدفق البيانات على أساس أنها قد تكون باب خلفى للسيطرة الحكومية.
لكن جيريمى مالكولم، كبير محللى السياسات العالمية فى مؤسسة “إليكترونيك فورنتير فاونديننيشن” يؤكد أن هناك حاجة للموازنة بين الحقوق فى الوقت الذى يدعم فيه نهج منع توطين البيانات بما لا يتعارض مع حماية البيانات والأمن الإلكترونى وحقوق المستهلك.
ومن الناحية التاريخية، كانت كتابة القواعد العالمية للتجارة تتطلب وجود أكبر قوتين تجاريتين وهما الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى، حيث يعملان على الاتفاق على اتجاه مشترك، لكن الفلسفات الأوروبية والأمريكية لحماية البيانات كانت متعارضة.
وكان المناصر الأكثر نشاطًا لتحرير القواعد تقليدياً هو الإدارة الأمريكية وحلفاؤها من شركات التكنولوجيا الكبرى التى تملكها الولايات المتحدة وكان البيت الأبيض وقت حكم الرئيس السابق باراك أوباما متعاطفاً بشكل غريزى مع احتياجات وادى السليكون «مقر تجمع شركات التكنولوجيا الامريكية»، وانتقد صراحة سياسات الاتحاد الأوروبى الحمائية تجاه البيانات بحكم الواقع.
وكتبت الولايات المتحدة قواعد تضمن تدفق البيانات عبر الحدود إلى 12 دولة فى آسيا والمحيط الهادئ وهى صفقة تجارية كان الهدف منها تصدير النموذج الاقتصادى الأمريكى إلى المنطقة الأسرع نمواً فى العالم، كما دفعت واشنطن بالفكرة فى اتفاقية التجارة فى الخدمات المقترحة والتى تضم 23 من أكبر الاقتصادات فى العالم.
لكن مع انتخاب الرئيس دونالد ترامب، الذى يهتم بالصلب أكثر من التقنية، وهو معادى غريزياً لالتزام أمريكا بالقواعد الدولية، خفت هذا الصوت القوى حيث انسحب على الفور اتفاقية التجارة عبر آسيا والمحيط الهادئ مشككاً فى جدوى الصفقة لبلاده.
وفى الوقت نفسه، فإن عدم المشاركة من الولايات المتحدة يعنى أن نقل المعلومات قد دخل مرحلة الثبات وعلى أى حال بات الضغط على قواعد البيانات قاسى مع ظهور الاتحاد الأوروبى كحاجز رئيسى ضد تحريرها.
ولطالما كان لدى أوروبا فلسفة مختلفة تمامًا تجاه البيانات والخصوصية ففى ألمانيا على سبيل المثال، يميل الرأى العام إلى دعم قوانين الخصوصية الصارمة وعادة ما تنسب إلى ذكريات المراقبة المستمرة من قبل الشرطة السرية فى ألمانيا الشرقية.
ويفرض قانون حماية البيانات العامة الجديد للاتحاد الأوروبى، والذى يبدأ سريانه فى 25 مايو الجارى قائمة طويلة من المتطلبات على الشركات التى تقوم بمعالجة البيانات الشخصية الخاصة، والتى باتت عرضة لغرامات مؤلمة قد تصل إلى 4% من إجمالى المبيعات السنوية العالمية.
أحد كبار المسئولين فى الاتحاد الأوروبى يشبه ذلك بالمخاوف من الأغذية المعدلة وراثياً، وهى قضية تجارية أخرى مستعصية على الحل حتى الآن فالرأى العام الأوروبى ينظر بريبة لتلك التكنولوجيا التى يعتبرها غير موثوقة فى حين تروج الشركات الأمريكية لها وبناء على ذلك تفرض المفوضية الأوروبية تنظيمًا صارمًا على رفضها الشديد لتحرير المعلومات عند الجلوس على طاولة المفاوضات التجارية.
وتشعر مارييتج شاكى العضوة الليبرالية فى البرلمان الهولندى بالتفاؤل، حيث تقول أنه لا يمكن لأى اتفاق تجارى أن يغير قانون الاتحاد الأوروبى سواء كان يتعلق بحماية البيانات أو البيئة أو أى شئ آخر، لكن يمكن وضع معيار عالمى للبيانات إذا جرت كتابة مبادئ واضحة للغاية تضمن حماية الخصوصية.
ومن الناحية العملية، يظل أولئك المكلفون بحراسة الخصوصية فى الاتحاد الأوروبى قلقين من أن أحكام البيانات فى الصفقات التجارية ستتركهم عرضة للتقاضى، ويفضلون تنظيم تصدير البيانات من خلال ترتيبات، خاصة أحادية الجانب وبعد معركة شرسة بين الأطراف التى تحكم حماية البيانات والتى تحكم التجارة اقترحت لجنة تنظيم البيانات الأوروبية مؤخراً نصاً قياسياً حول تدفق البيانات للصفقات التجارية المستقبلية.
ويهدف هذا الإجراء إلى حظر تدابير التوطين من النوع الذى تستخدمه روسيا أو الصين عادة، لكن خبراء التجارة يحذرون من أنها مكتوبة بحذر شديد، مع إعطاء حرية تامة لإجراءات تدعى حماية الخصوصية، حيث أن قانون الاتحاد الأوروبى لا يوفر أى قيود ذات مغزى على البلدان التى تريد ممارسة توطين البيانات.
الاعتبارات التكتيكية مهمة أيضاً حيث تخشى أوروبا من أن تشديد القيود بشان تدفق البيانات فى الصفقات التجارية يجعلها أكثر عرضة للانهيار.
وإزاء هذه الخلفية السياسية، فإن احتمالات وجود قواعد دولية واسعة وملزمة بشأن تدفق البيانات ضئيلة ومن من المرجح أن تتطلب أى مبادرة عالمية من الولايات المتحدة قيادة هذه المهمة بحماسة.
وصحيح أن الولايات المتحدة تضغط من أجل الحصول على شروط قوية لتدفق البيانات فى مفاوضاتها مع كندا والمكسيك، ولكن بدون جعل ذلك شرطًا من الشروط التجارية، فإن تأثيره سيكون محدودًا.