اقتصادنا يا تعبنا.. الحلقة 80
لا شك أن ملامح الأزمات تكمن فى ارتفاع الاستثمار فى أدوات الدين مع ارتفاع أسعار الفائدة وانخفاض كبير فى أسعار عملات الدول النامية وتشبع البورصات فى الدول المتقدمة، والسعى الحثيث عن المكسب السريع.. فتزداد على أثرها حركة تداولات الأموال الساخنة hot money وتنشط فى ظل هذه الظروف فتنتشر السيولة خارج نطاق النظام المصرفى فى ظل عدم قدرته على مواكبة تحديات الثورة الصناعية الرابعة وما أتت به من تكنولوجيا مالية متطورة مثل البلوك تشين والعملات الرقمية المشفرة لتخلق فرصاً وتحديات أمام الأجهزة المصرفية وفى ظل تزاد حدة التوترات الجيوسياسية وسقوط دول محورية، مع تصاعد الصراع على الثروات الطبيعية وتراجع معدلات النمو والتجارة والاستثمار الجديد، وتزايد حدة الصراعات التجارية بين الاقطاب التجارية العالمية مع تزايد النزعة الحمائية.. هذا إلى جانب ارتفاع حجم الديون للدول وارتفاع نسبتها إلى نواتجها المحلية الإجمالية، وبالتالى تزايد عجز ميزانياتها الذى سيتأثر أيضاً بالسلب مع الارتفاع التدريجى الحالى لأسعار البترول عالمياً.
فوفقاً لتقرير إحصائيات الدولية الصادر فى 2018 عن البنك الدولى، فإنه فى عام 2016 ارتفع صافى التدفقات المالية إلى البلدان ذات الدخل المنخفض والمتوسط إلى 773 مليار دولار، أى بزيادة أكثر من 3 أضعافها، مقارنة بمستويات عام 2015، حيث مثلت تدفقات الديون وحقوق الملكية إلى البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل منها، باستثناء الصين، ما يقرب من 536 مليار دولار عام 2016 (أى ما نسبته 69.3% من إجمالى التدفقات المالية لها).
فمن استقراء الأزمات السابقة سنجد أن هناك تشابهات فى تلك الملامح، فالأزمة المالية الآسيوية التى أصابت معظم قارة آسيا بدءاً من شهر يوليو عام 1997، بدأت أول الأمر فى تايلند فى أعقاب انهيار عملة البات التايلندى، إذ أجبرت الحكومة على تعويم البات بعد أن اختفت العملات الأجنبية التى كانت توازن معدَّلات تحويل العملة، لتنقطع الرابطة بين البات التايلندى والدولار الأمريكى.
كانت هناك جهودٌ حثيثة لدعم البات التايلندى فى وجه انعدام التوازن المالى الشديد، والذى كانت تجارة العقارات الحقيقية أحد أسبابه البارزة.
كانت تايلند تتحمَّل فى ذلك الحين عبء ديون خارجية، ممَّا قاد الدولة إلى حالة من الإفلاس، ليتبع ذلك انهيار عملتها لتنتشر الأزمة بعدها وتنتقل إلى باقى الدول الآسيوية، فبدأت عملات كامل جنوب شرق آسيا وكوريا الجنوبية واليابان بالسقوط، وانخفضت أسعار البورصة المالية وجميع المنتجات، مقابل ارتفاعٍ هائل فى القروض الخاصَّة، وكانت أكثر البلدان تأثراً بالأزمة المالية الآسيوية هى إندونيسيا وكوريا الجنوبية وتايلند، تليها بدرجةٍ أقل ماليزيا والفلبين ولاوس وهونغ كونغ، وكذلك الصين وتايوان وسنغفورة وبروناى وفيتنام، وقد عانت جميعها من انخفاض الطلب والثقة فى السوق على مستوى المنطقة بأسرها، وكان أهم ما يميز فقاعة أسواق المال فى الأزمة الآسيوية الأموال الساخنة.
فقد ارتفعت نسبة الديون الأجنبية بالنسبة للناتج المحلى الإجمالى حينها من 100% إلى 167% فى اقتصادات اتحاد دول جنوب شرق آسيا (آسيان) الكبرى بين عامى 1993 و1996، لتجتاز 180% خلال أسوأ مراحل الأزمة، وارتفعت النسبة فى كوريا الجنوبية من 13% إلى 21%، ووصلت فيما بعد حتى 40%، فيما أن الدول الصناعية الجديدة الشمالية الأخرى كانت نسبتها أفضل بكثير.
رغم أنَّ معظم حكومات آسيا سنَّت ظاهرياً سياسات مالية لمكافحة الأزمة، فقد أطلق صندوق النقد الدولى حينها برنامجاً تكلفته 40 مليار دولار أمريكى لدعم اقتصادات إندونيسيا وتايلند وكوريا الجنوبية، وهى أكثر الاقتصادات تأثُّراً بالأزمة، حيث كان الهدف من هذه الخطوة كبح الأزمة عن التحوُّل إلى أزمة مالية عالمية، رغم ذلك، لم تساعد هذه الجهود كثيراً بإعانة اقتصاد إندونيسيا المحلى، وقد اضطرَّ إثر ذلك الرئيس الإندونيسى سوهارتو حينها إلى الاستقالة فى 21 مايو عام 1998 بعد 30 عاماً من الحكم المتواصل، وذلك إثر احتجاجات عارمةٍ أعقبت ارتفاع الأسعار فى البلاد.
فى عام 1998، انخفض معدَّل نمو اقتصاد الفلبين إلى قرابة الصّفر، ولم تستطع سوى سنغافورة وتايوان الاحتماء إلى حدٍّ ما من الأزمة، إلا أنَّ كليهما واجها أضراراً كبيرة، خصوصاً سنغافورة الواقعة بين ماليزيا وإندونيسيا المتضرّرتين.
وفى سبتمبر 2008 بدأت أزمة مالية عالمية، والتى اعتبرت الأسوأ من نوعها منذ زمن الكساد الكبير سنة 1929م، حيث بأت الأزمة أولاً بالولايات المتحدة الأمريكية ثم امتدت إلى دول العالم ليشمل الدول الأوروبية والدول الآسيوية والدول الخليجية والدول النامية التى ترتبط اقتصادها مباشرة بالاقتصاد الأمريكى، وقد وصل عدد البنوك التى انهارت فى الولايات المتحدة خلال العام 2008 إلى 19 بنكاً.. بعد أزمة الرهن العقارى التى ظهرت على السطح سنة 2007م، واستمرت تداعيات أزمة الرهن العقارى حتى 2008، لقد أثرت أزمة الرهن العقارى على قطاع البنوك والأسواق المالية الأمريكية مهددةً بانهيار الاقتصاد الأمريكى، وتداعى الاقتصاد العالمى حينها، حيث تسببت أزمة الرهن العقارى فى ندرة فى السيولة فى أسواق الائتمان والأجهزة المصرفية العالمية، إلى جانب الانكماش فى قطاع العقارات فى الولايات المتحدة، والممارسات المرتفعة المخاطرة فى الإقراض والاقتراض.
وقد ظهرت الأزمة بصورتها الحالية عندما انفجرت فقاعة سوق العقارات، والتى نتجت عن تسويق العقارات لمحدودى الدخل فى الولايات المتحدة بطريقة ملتفة وشروط تبدو سهلة للوهلة الأولى، ولكن بعقود كانت صياغتها بمثابة فخ لمحدودى الدخل فقد كانت فى مجملها التفاف على قوانين الدولة والحد الائتمانى.
حيث تضمنت العقود نصوصاً تجعل القسط يرتفع مع طول المدة، وعند عدم السداد لمرة واحده تؤخذ فوائد القسط 3 أضعاف عن الشهر الذى لم يتم سداده، فضلاً عن وجود بنود فى العقود ترفع الفائدة عند تغيرها من البنك الفيدرالى الأمريكى، فيما سمى بـالرهن العقارى ذى الفائدة القابلة للتغيير.
فقد شهدت السنوات السابقة لذلك تساهلاً ملحوظاً فى شروط الائتمان واتجاهاً طويل المدى لارتفاع أسعار العقارات، حيث ارتفعت أسعار العقارات (بالتحديد السكنية منها) بما يقرب 124% خلال الفترة 1997- 2006، مما حفز الكثيرون على الاقتراض لتمويل شراء مساكنهم الخاصة، حيث ارتفع معدل التمليك السكنى فى الولايات المتحدة الأمريكية من 64% فى 1996 الى 69.2% فى 2004. وفى ظل الارتفاع العام لأسعار تلك العقارات أخذ كثير منهم فى الاقتراض بضمان قيمتها –التى لم تسدد فى الأساس – وكان الاعتماد فى هذه القروض بشكل أساسى على قيمة العقار التى تتزايد باستمرار فى السوق كضمان.
وخلال عامى 2006 و2007 بدأت أسعار الفائدة فى الإرتفاع على غير المتوقع مما أدى الى تزايد التزامات محدودى الدخل حيث ارتفعت أعباء قروض العقارات التى التزموا بها، بالإضافة الى القروض التى تشكل قيمة العقارات ضماناً لها، فامتنع الكثيرون عن السداد بعد أن ارهقتهم الأقساط المتزايدة، وبدأت أسعار العقارات تهوى لأسفل… ولاحتواء ذلك الوضع قامت البنوك وشركات العقار ببيع ديون المواطنين فى شكل سندات لمستثمرين عالميين بضمان العقارات (علماً بأن شركات العقار فى مصر حالياً تبيع شيكات المصريين الشترين للعقارات للبنوك وشركات التأجير التمويلى بنظام التخصيم.
وفتحت باب الأقساط إلى 10 سنوات بدون مقدمات)، والذين لجأوا بدورهم – بعد أن تفاقمت المشكلة- لشركات التأمين التى أوجدت من الأزمة فرصة للربح بضمان العقارات فيما لو امتنع محدودى الدخل عن السداد.
فقامت بتصنيف سندات الديون لفئتين (أ) قابله للسداد (ب) لا يمكن سدادها وبدأت شركات التأمين بأخذ أقساط التأمين على السندات من هؤلاء المستثمرين، وفى ظل تلك الظروف قام البنك الفيدرالى الأمريكى بخفض أسعار الفائدة عدة مرات الى ان وصلت صفر% (والتى عاودت الارتفاع بعد تحسن الأوضاع إلى 1.75% حاليا).
ومع تفاقم الأزمة وتوقف محدودى الدخل عن السداد، اضطرت الشركات والبنوك لمحاولة بيع العقارات محل النزاع والتى رفض ساكنوها الخروج منها، فعجزت قيمة العقار عن تغطية التزامات أى من البنوك أو شركات العقار أو التأمين، مما أثر على السندات فطالب المستثمرون بحقوقهم عند شركات التأمين، فأعلنت أكبر شركة تأمين فى العالم AIG عدم قدرتها على الوفاء بالتزاماتها تجاه 64 مليون عميل تقريبًا، مما دفع بالحكومة الأمريكية إلى منحها مساعدة بقيمة 85 مليار دولار مقابل امتلاك 79.9% من رأسمالها، ولحق بها كثير من المؤسسات المالية الأمريكية مثل مورجان ستانلى وجولدمان ساكس، ثم فى سبتمبر 2008 أعلن بنك Lehman Brothers افلاسه.
وقد قٌدرت خسائر المؤسسات المالية حول العالم فى يوليو 2008 بما يقرب من 435 مليار دولار أمريكى، وشهدت البورصات فى أغسطس 2007 تدهوراً شديداً أمام مخاطر اتساع الأزمة وتدخلت المصارف المركزية لدعم سوق السيولة، وشهد الاقتصاد الأمريكى بعدها انكماشاً ملحوظاً على مدار العام 2008، ظهرت جلية فى معدلات البطالة، حيث وصلت معدلات البطالة إلى 6.1%، وهو المعدل الأعلى فى 5 سنوات فى سبتمبر 2008 فى ظل تزايد تسريح اعداد كبيرة من العمالة حينها، وقد انعكست هذه الصورة السلبية على سوق الأوراق المالية فى صورة انخفاضات حادة فى أسعار الأسهم والسندات.
وامتد أثر الأزمة المالية بطبيعة الحال ليشمل الدول الأخرى وعلى رأسها دول الاتحاد الأوربى، حيث هبط الإنتاج الصناعى الأوروبى فى مايو 2008 بمعدل 1.9%، وهو الانخفاض الأكثر حدة فى شهر واحد منذ أزمة سعر الصرف فى 1992، وترتب على معدلات النمو حينها تسريح عدد كبير من العمالة وتزايد معدلات البطالة على مستوى الاقتصاد الأوروبى.
وكان من أهم تلك المؤشرات التى أدت إلى تفاقم الأزمة أيضاً حينها الارتفاع المطرد فى أسعار البترول التى أدت الى تفاقم الأزمة العالمية إلى جانب أزمة الرهن العقارى وتكرار الأزمات الائتمانية فى الأسواق العالمية؛ وارتفاع معدل البطالة، ففى يناير 2008، ارتفعت أسعار البترول لتصل إلى 147 دولاراً للبرميل فى يوليو 2008، (ونحن الآن فى 2018 فى حالة صعود لأسعار البترول، حيث وصلت إلى 80 دولاراً/ للبرميل ومتوقع ان ترتفع إلى مستويات اكبر بسبب التوترات الجيوسياسية).. وترتب عليها انذاك حدوث قفزة كبيرة فى أسعار السلع الأساسية، مما هدد بحدوث ركود أو “كساد” تضخمى Stagflation، وفى النصف الثانى من 2008 شهدت أسعار معظم السلع انخفاضاً فى ظل التوقع لحدوث كساد عالمى، ومن ناحية أخرى، سجلت معدلات التضخم العالمية مستويات تاريخية، حيث كان هناك اتجاه عام لزيادة عرض النقود خاصة من قِــبل البنك المركزى الأمريكى فى محاولة للتخفيف من حدة أزمة الرهن العقارى الأمريكية. وقد كان هذا التضخم أكثر قوة فى البلاد المصدرة للبترول، حيث ارتفعت لديها احتياطيات النقد الأجنبى، مع الافتقار إلى حزمة من السياسات النقدية المناسبة – مثل عمليات السوق المفتوحة على سبيل المثال – وذلك للاحتفاظ بالمعدلات المستهدفة لأسواق النقد وأسعار الفائدة، فيما يٌسمى بعمليات التعقيم Sterilization.
إن التشابهات كثيرة وأتمنى أن تستفيد الدول من الدروس التاريخية وتحليل مستر للأزمات العالمية للتكيف وتخفيف من حدة القادم.. الرقابة على الأسواق والتنظيم الجيد لها والقدرة على التكيف والتنبؤ بالأزمة قبل وقوعها سوف يساعد كثيراً..
وما نبغى إلا إصلاحا وتوعية