لفت نظرى مؤخراً خبر فى إحدى الصحف الاقتصادية المتخصصة يفيد بقيام شركة «مصر للتأمين التكافلى» بالتأمين على بعثة فريق كرة القدم لنادى الزمالك أثناء معسكره التدريبى المُقام فى دولة أوروبية لمدة 15 يوماً تقريباً. وإلى هنا لا يوجد فى واقع الأمر ما يدعو للتعجب حيث أن هؤلاء اللاعبين ومن معهم من فنيين وإداريين معرضين مثلهم مثل غيرهم من المسافرين – وربما أكثر فليلاً – للإصابة أو المرض وقد يحتاجون إلى علاج سريع أو حتى تدخلات طبية طارئة.. ومن ثم يبدو منطقياً أن يتم التأمين عليهم ضد مثل تلك المخاطر بما فى ذلك العجز الكلى أو الجزئى. ولكن المثير للاستغراب حقاً هو أن تشمل هذه التغطية التأمينية كشف العيون وعمل النظارات الطبية وتركيبات الأسنان ولم يكن ينقصها من بعد ذلك سوى نظارات الشمس وعمليات التجميل وتصفيف الشعر.
وبالنسبة لى كان هذه فى جوهره معبر تعبيراً دقيقاً عن الحالة البائسة لقطاع التأمين فى مصر وغياب الوعى الكامل لدى عملائه والمجتمع بشكل عام من ناحية وضعف تصميم المُنتج التأمينى وشبه انعدام نضج الكيانات التى تعمل به من ناحية أخرى وخاصة شركات التأمين أنفسهم (رغم أن بعضهم يحمل أسماء عالمية كبيرة ومرموقة فى عالم التأمين) وسماسرة التأمين ومديرى الطرف الثالث Third Party Administrators (TPA). أما معيدى التأمين فهذه قصة أخرى شديدة الحساسية قد أتعرض لها بالتفصيل فى موضع آخر مستقبلاً ولكن لا يتسع لها المجال هنا.
فنحن فى الواقع نرى أنفسنا أمامنا شركة تأمين ذات حيثية تعرض باقة تأمينية متكاملة صحيح ولكنها فى الوقت نفسه تشتمل على خدمات لا حاجة للعميل لها حيث أنه حتى لو افترضنا أن أحد اللاعبين فقد واحدة من أسنانه، وهو أمر وارد بالطبع أثناء التدريبات، لا توجد على حد معلوماتى الطبية المتواضعة ضرورة ملحة لعمل تركيبات فورية فى بلد المعسكر ويمكنه الانتظار بضعة أيام حتى يعود إلى بلاده. ففقد الأسنان أكيد شئ مؤلم ولكنه ليس بطارئ يهدد حياة الفرد.
ويُظهر لنا هذا بوضوح أن شركة التأمين إما أنها تحاول إجبار العميل على شراء مُنتج لا علاقة له بمتطلباته وهى ستقبض ثمنه عنوة بكل تأكيد من منطق أن الباقة لا يُمكن تجزءتها وهى حجة نسمعها كثيراً – ليس فقط فى قطاع التأمين – ولا أجد لها فى معظم الأحوال مبرراً منطقياً أو أن الشركة غير قادرة على تشكيل باقة تأمينية تتضمن كافة احتياجات العميل دون أن تتعداها. والاحتمال الثانى وارد بالطبع لدى الشركات الصغيرة قليلة الخبرة ولكن أن يطال ذلك كيان عملاق مثل «مصر للتأمين» أو شركة من شركاتها التابعة، فهذا ما يصعب علينا تصوره والأمر بالتالى لا يخلو نوعاً من «البلطجة التأمينية» إن جاز التعبير ومشكلة ذلك الرئيسية هى عدم وجود قيمة مُحددة وواضحة للخدمات التأمينية المفردة ولكن فقط فى سياق باقات مُعينة مما يؤدى إلى تشوهات خطيرة بالسوق التأمينى الذى كنا نظن أنه وصل إلى مرحلة نضوج متقدمة بدرجة ما بعد ثورة يناير 2011 التى أضطرته إلى تقديم خدمات تأمينية جديدة مثل تغطية أعمال العنف والاضطرابات السياسية وحالات الشغب والإضرابات العمالية. ولكن بدلاً من ذلك لا تزال شركات التأمين فى مصر تتعامل على ما يبدو بمنطق «الجمل بما حمل» دون تفرقة ولا تمييز وكأنها تريد أن تقول لنا إنه لا يُمكننا شراء الطماطم دون باقى السلطة.
ولكن يبدو لنا هذا الأمر طبيعياً إذا ما وضعناه فى سياق عام لسوق تأمينية تتسم بقدر كبير من عدم الانضباط والفوضى وسوء مستوى الخدمات المُقدمة فى ظل تنافسية شديدة ومن ثم محاولة إغراء العملاء بأقل الأقساط التى لا يُمكنها أبداً إتاحة غطاء تأمينى يفى بغرضه فعلياً.
والمأساة الأكبر فى هذا الصدد هى أن هذا التعامل العشوائى يمتد أيضاُ إلى المجال التجارى والصناعى وخاصة الشركات الصغيرة والمتوسطة ومتناهية الصِغر التى تراهن عليها الدولة بقدر كبير لتكون المُساهم الرئيسى فى انتشال الاقتصاد المصرى من عثرته وتقليص نسب البطالة. فتلك الكيانات بعكس الشركات العملاقة لا تمتلك أدوات الضغط اللازمة للدفاع عن مصالحها أمام شركات التأمين وستضطر بالتالى أما إلى الرضوخ لشروطها المُجحفة أو تحمل مخاطر عدم وجود غطاء تأمينى كاف لها بما قد يقضى عليها أو أنها ستترك العمل من الأساس وتحرم الاقتصاد القومى من مصدر هام وهو ما سيقوض أيضاً أى خطط تنموية قد تكون موجودة هنا أو هناك.
هذا بالنسبة لشركات التأمين، أما فيما يتعلق بالعملاء وبالوعى التأمينى لدى الناس، فهذا ما سأفرد له الحديث فى الجزء الثانى من هذا المقال.
بقلم: محمد شيرين الهوارى
الخبير فى الاقتصاد السياسى