نعلم جميعاً، بالطبع، أن التحرير الكامل لسعر الوقود، وبالتالى رفع الدعم عنه نهائياً قادم لا محالة، إن لم يكن مع بداية العام المالى 2019/2020 فسيكون فى العام الذى يليه. والحقيقة أن الموضوع هذه المرة سيكون أكثر تعقيداً من مجرد غلاء البنزين؛ لأن التحرير الكامل معناه نهاية السعر الموحد الذى اعتاد عليه المصريون منذ ما يزيد على نصف القرن، وسنجد أنفسنا وقتها أمام سيناريو جديد تماماً لم نعتده، قط؛ حيث ستضع كل شركة إنتاج ثم كل شركة توزيع السعر الذى تراه مناسباً لتغطة نفقاتها، ثم تحقيق مستهدفها من الربحية، وسيختلف هذا السعر بالتبعية من محطة تموين لأخرى، وما بين المدن وبعضها، بل وربما سيكون للبنزين سعر مختلف فى الدقى عنه فى المرج وهكذا. كما سيلعب السعر العالمى للبترول دوراً محورياً فى تحديد سعر الوقود حينها، ومن ثم سيختلف سعر المنتج النهائى، وفقاً لنوعية الخام المُستخدمة ونسبة الاستخراج وطريقة التكرير، وأوضاع بورصات السلع حول العالم، وقد يكون للبنزين سعر فى السابعة صباحاً وآخر فى العاشرة مساءً، ولكل ذلك أمثلة حقيقية حدثت ولا تزال تحدث فى العديد من دول العالم.
وجل ما أخشاه هو ألا ينتبه المسئولون فى حكومتنا إلى هذا الأمر سوى فى اللحظات الأخيرة من فرط ما ينصب تركيزهم على تخفيض الدعم لتقليص عجز الموازنة، وكأن هذا هو كل ما هنالك وإن حدث يكون قد قضى الأمر.
يجب علينا الاستعداد من الآن لهذه اللحظة الحاسمة، فما هو أسوأ من غلاء الوقود هو حدوث فوضى فى سعره يمكنها أن تؤدى إلى الشلل التام للحياة التجارية لما كان المنتجون والموزعون سيعجزون عن تسعير منتجاتهم على المديين المتوسط والطويل، لكون عنصر تكلفة النقل سيتحول إلى رقم مجهول، وما سيرتبط بذلك من نقص حاد فى جميع السلع الأساسية والكمالية على حد سواء، بالإضافة إلى تعطل المواصلات العامة غير الحكومية، وانعدام قدرة الفرد، خاصة إذا كان يملك سيارة، على إعداد ميزانيته الخاصة وميزانية منزله وكل ما سيستتبعه ذلك من وقف لمصالحه التى هى فى حد ذاتها عنصر مهم للغاية فى الاقتصاد الكلى.
وهناك عالمياً خمس طرق متعارف عليها للتصدى لتلك الإشكالية، وإيجاد آلية لتسعير البنزين بشكل مستدام للتغلب على جميع العقبات سالفة الذكر. ولكل طريقة منها ما يميزها وما يعيبها.
وسنتعرض فيما تبقى من الجزء الأول لهذا المقال للطريقة الأولى ثم نترك الطرق الأربع الأخرى للمقالين القادمين.
تتمثل الطريقة الأولى فى الإدارة الحكومية لسعر البنزين، وهو ما لا يتناقض على الإطلاق مع رفع الدعم عنه كلياً وتحريره بالكامل؛ لأن الإدارة الحكومية هنا لا تعادل التسعير الجبرى، بل مؤداها أن تضع الحكومة سقفاً أقصى لتسعير البنزين، وتترك الباقى لتتنافس الشركات المختلفة فيما بينها، وقد تتولى الهيئة العامة للبترول وقتها هذا الدور، وإن كان ذلك بالطبع يستلزم تخارجها كاملاً من منظومة التوزيع.
وفى معظم الأحوال يُبنى هذا الحد الأقصى على توقعات سعر الخام والعملة فى الموازنة العامة مُضافاً إليها هامش الربح المقبول، ويُمكن بالتالى تغييره من سنة لأخرى. ويضمن ذلك للمتعاملين مع السوق درجة معقولة من الاستقرار وعليه القدرة على التخطيط بعيد المدى.
ولكن فى الوقت نفسه يعيب هذه الطريقة أن تقديرات أسعار البترول الخام والعملة فى الموازنة قد تخيب خيبة كبرى مهما كانت كفاءة القائمين عليها وخبرتهم وتحريهم الدقة والواقعية؛ لأننا فى النهاية نتحدث عن سوق قد يتأرجح بشدة نظراً لارتباطه الوثيق بمحيطه السياسى الدولى والإقليمى الذى غالباً لا يكون لمعظم الدول تأثير مباشر أو غير مباشر عليه.
وربما تكون الموازنة المصرية الحالية 2018/2019 خير دليل على ذلك حيث قدرت سعر برميل خام برنت القياسى بمبلغ 67 دولاراً وسعر الدولار أمام الجنيه المصرى بأدنى 17 جنيهاً ووصل الأول إلى ما بين 72 و75 دولاراً والثانى قارب على 18 جنيهاً فى حين أن تقديرات الموازنة وقت إعدادها كانت واقعية جداً وليس من المنطقى أن نطالب وزارة المالية مثلاً بتوقع سياسات دونالد ترامب تجاه إيران أو مشاكل السعودية مع قطر وما شابه حتى لو كانت بوادرها موجودة منذ فترة ليست بالقصيرة.
وما سيحدث حينها هو أن الشركات الكبرى إن لم يناسبها السعر فى لحظة ما بسبب متغيرات السوق العالمى، وهو أمر وارد جداً فى أى وقت، ستلجأ إلى طرق ضغط مختلفة يأتى فى مقدمتها بالطبع تقليص حجم الإنتاج أو ربما إيقافه كلياً إذا تطلب الأمر وبالتالى خلق أزمة ليست بالهينة أو حتى كارثية ولن يكون فى يد الحكومة وقتها شيئاً لتفعله، فهى يمكنها أن تعاقب من لا يلتزم بجودة المُنتَج أو سعره ولكنها مغلولة الأيدى عمن يتوقف عن الإنتاج لضعف الربحية.
أما الطرق الأخرى الممكنة فسنرجئ الحديث عنها إلى الأسبوعين القادمين.
بقلم: محمد شيرين الهوارى
الخبير فى الاقتصاد السياسى