تحدثت فى المقال السابق عن آلية تسعير الوقود فى زمن ما بعد التحرير الكامل لسعره، ورفع الدعم من عليه نهائياً عبر نظام «الإدارة الحكومية».
وليست هذه بالطبع الطريقة الوحيدة الممكنة، بل توجد أربعة مسارات أخرى، سأعرض اثنين منها فى هذا الجزء الثانى من المقال ثم الاثنين الأخيرين فى الجزء الثالث.
والطريقة الثانية هى الربط المباشر بسعر البترول العالمى مع تثبيت سعر العملة الوطنية (لمدة سنة مالية واحدة ولهذا الغرض فقط وبعيداً عن سوق الصرف) أمام الدولار الأمريكى الذى يتحدد من خلاله سعر النفط الخام حتى فى الدول الأوروبية وتحديد هامش لأسفل ولأعلى يمكن تحريك سعر المُنتج فى إطاره؛ لأنه ليس من المنطقى بالطبع تغيير سعر لتر البنزين بمحطات الوقود لمجرد صعود أو هبوط الخام ثلاثة أو أربعة سنتات أو حتى دولاراً كاملاً فى الأسواق العالمية لما كان البترول مُدخلاً من مدخلات البنزين وليس المُدخل الوحيد حتى ولو كان الرئيسى. والحسبة هنا بسيطة: إذا اعتبرنا مثلاً أن النفط الخام يمثل %70 من إجمالى تكلفة الوقود، وصعد سعر البرميل بمقدار 2 دولار فسيتم قسمة الدولارين على 159 (البرميل الواحد = 159 لتراً) أى ما يعادل حوالى 3.1 سنت للتر الواحد أو 57 قرشاً مصرياً تقريباً بما سوف يؤثر على سعر اللتر بما يصل إلى 40 قرشاً على افتراض ثبات باقى عناصر التكلفة، وهو افتراض منطقى؛ حيث لا ترتفع مثلاً أجور العمالة ولا مصاريف التكرير وما شابه مع ارتفاع سعر الخام.
ولو قلنا إن ما صرحت به الحكومة المصرية، مؤخراً، بأن وقود 92 لا يزال مدعوماً بمبلغ 1.25 جنيه، ما يعنى أن سعره الحقيقى 8 جنيهات ستمثل كل خمسة دولارات زيادة أو نقصاناً فى سعر الخام تحريكاً فى نطاق %5 وهى حدود مقبولة للغاية، ولن تمنع التخطيط طويل الآجل للهيئات الاقتصادية كافة، مع العلم أن تغيير سعر النفط الخام بما يزيد على 5 دولارات ممكن بالطبع، ولكنه وقتها يكون على مدى زمنى طويل وليس بين عشية وضحاها وتشير جميع الدلائل، حالياً، إلى أن هبوطه لأقل من 65 دولاراً أو صعوده بما يزيد على 80 دولاراً يصعُب تصوره على المدى المنظور.
وهذا النهج يتميز بمرونته الشديدة، ولكنه فى الوقت نفسه، غالباً ما سيؤدى إلى تقلبات بدرجة ما ومعه تكون آليات المراقبة على مدى التزام شركات البترول شبه معدومة بالنظر إلى اختلاف أسعار النفط الخام حسب الأنواع، وصعوبة معرفة أى نوعية أو أى مزيج استخدمته هذه الشركة أو تلك.
وبالتطرق إلى الطريقة الثالثة نجد أنه من الممكن أن تتفق شركات الإنتاج والتوزيع على سعر ثابت، وفقاً لمعطيات اللحظة بصرف النظر عن تغيير أسعار المُدخلات لمدة محددة ستكون سنة واحدة فى الأغلب، على أن يتم تعويض النقصان أو الزيادة فى العام المقبل، بمعنى أنه لو كان السعر الفعلى وقت الاتفاق 7.5 جنيه، واتضح فيما بعد أن متوسط السعر لهذا العام وصل إلى 8.25 جنيه، وكان السعر 7.75 جنيه بعد انقضاء العام، أى وقت الاتفاق الجديد، يرتفع سعر لتر الوقود فى العام التالى إلى 8.50 جنيه والنصف. وتزيد هذه الطريقة بشكل ملحوظ من استقرار الأسواق وتُضفى الشفافية على التعاملات بشكل عام، وإن كان يعيبها أمران؛ أولهما أنها قد تتسبب فى هزات عنيفة كل عام، إن جاءت الأسعار بالزيادة، وثانيهما أنه لا يوجد ضامن حقيقى لأن تقوم الشركات الإنتاج والتوزيع فعلياً بخفض الأسعار فى حالة هبوط النفط الخام عالمياً، فما بالنا بمنتجى السلع ومُقدمى الخدمات. ومن الصعب للغاية فى هذا الصدد صياغة تشريع يلزمهم بذلك فى إطار سوق حرة من المفترض أنها ستجذب المزيد من الاستثمارات للقطاع على اعتبار أنها تتيح مساحات أكبر من الحركة للاعبين الأساسيين وتعزز من قدرتهم على المناورة، وهو ما قد ينتُج عنه رفض الشركات مثل تلك الآلية من الأساس أسوة بما ستفعله غالباً بفكرة الإدارة الحكومية المذكورة فى المقال السابق.
وإلى الآن يقودنا ما ذكرنا إلى أن الطريقة الثانية والتى تعتمد على الربط المباشر بالأسعار العالمية للخام قد تكون هى الطريقة الوحيدة الصالحة للتطبيق من بين الآليات الثلاث الأولى التى طرحناها حتى هذه اللحظة؛ لأن الموضوع فى النهاية – سواء أعجبنا ذلك أم لم يعجبنا – متوقف على مدى قبول الشركات العالمية الكبرى للطرح المعمول، وفى مقدمتها عمالقة استخراج البترول مثل «BP» البريطانية أو «Caltex» الأمريكية أو «Shell» الهولندية وهكذا من الذين صحيح لم يعد لديهم محطات تموين وقود فى مصر، ولكنهم لا يزالون متحكمين فى منظومة التوزيع بدرجة كبيرة؛ لأنهم هم من ينقبون ويستخرجون، وهى إشكالية أخرى كبيرة، ولكن لا يتسع المجال هنا للحديث عنها بجدية وربما سأتطرق لها فى مقال لاحق.