افتتاحية صحيفة “فاينانشال تايمز البريطانية”
كان أكتوبر شهراً عصيباً على الأسواق، وفقد فيه “ستاندرد آند بورز 500” مكاسبه فى العام بأكمله، بعدما وصل إلى مستوى قياسى منذ 5 أسابيع فقط.
وفى أوروبا، حيث بدأت الاضطرابات فى وقت سابق، اقترب “ستوكس 600” لأدنى مستوى له منذ أواخر 2016، وتتجه الأسواق الآسيوية إلى أسوأ شهر لها فى عامين، متأثرة بالسوق الصينى، الذي يعد بين الأسوأ أداء العام الجارى، وبتراجع الرنيمبى لأدنى مستوى منذ 10 سنوات، أصبح من الواضح على مستوى العالم الآن أن هناك تغيراً واسعاً يجرى.
ولا تزال نهاية الأموال السهلة، فى شكل التيسير الكمى، التى دفعت جميع المراكب فى العقد التالى للأزمة المالية العالمية، فى خلفية الاضطرابات، ويعد الفيدرالى فى مزاج الانسحاب الكامل، ويقلص ميزانيته بمقدار 50 مليار دولار شهرياً، كما خفض البنك المركزى الأوروبى مشترياته من السندات، وأكد رئيسه، ماريو دراجى، الأسبوع الجارى خطط وقف برنامج التيسير الكمى بنهاية العام.
كما أن علامات ضعف النمو فى منطقة اليورو، بجانب الخلاف على الموازنة الإيطالية قد يدفعان المركزى الأوروبى لتأجيل وقف المشتريات، ولكن يظل المركزى مرتاحاً لفكرة أن منطقة اليورو تشهد تباطؤا وليس ركودا.
وتعد ثقة البنوك المركزية فى أمريكا وأوروبا بأن الاقتصادات تستطيع الوقوف على قدمها بدون دعم المحفزات هى علامة إيجابية بشكل عام، ولكن انتهاء برامج التيسير الكمى يعنى العودة إلى المستويات الطبيعية للتقلبات السوقية، كما أنه يدفع المستثمرين للتركيز مجدداً على الأسس الاقتصادية، التى تبدو أضعف قليلاً مما كانت عليه فى الشهور القليلة الماضية سواء فى الولايات المتحدة أو غيرها.
ويعنى ارتفاع العمالة وتكاليف المدخلات والاقتراض فى الولايات المتحدة أن أرباح الشركات وصلت إلى ذروتها على الأرجح، ما يقوض توقعات نمو الأرباح، ورغم أن تخفيضات الضرائب من قبل الرئيس دونالد ترامب عززت الطلب المحلى، يقول المتوقعون إن تأثيرهم سوف يتبدد بعد منتصف 2019 أو قبل ذلك.
وفى نفس الوقت، يضغط الدولار القوى على المصدرين الأمريكيين، ويضعف كذلك الطلب الخارجى، وخفض صندوق النقد الدولى توقعاته للنمو العالمى الشهر الجارى بنسبة 0.2% إلى 3.7% للعام الجارى والمقبل، ما يعكس المخاطر المتزايدة.
وأما المصدر الأكبر لمخاوف المستثمرين هى الصين حيث تباطأ النمو إلى 6.5%، على أساس سنوى، فى الربع الثالث، وهى أبطأ وتيرة منذ الأزمة المالية العالمية.
وهذا فى ذاته ليس مصدراً للفزع، فهو يعكس جزئياً المجهودات الجادة للتحول من نموذج نمو يقوم على الدولة إلى آخر أكثر استدامة ومدفوع بالاستثمار والاستهلاك الخاص.
ولكن هذا التباطؤ له آثار جانبية هامة، فعلى سبيل المثال تباطأت مبيعات المركبات التجارية والركاب فى الصين مما يقترب من 29 مليون العام الماضي إلى حوالى 17 مليون مركبة، ويضر التباطؤ في مبيعات السيارات في الصين، والناتج عن التخلص التدريجى من الإعفاءات الضريبية على المركبات، بصانعى السيارات الأوروبيين الذين يعانون بدورهم من الطفرة الاستراتيجية فى التحول نحو المركبات الكهربائية.
وفى نفس الوقت، لا تعقد الحرب التجارية لترامب مع الصين التحول فى بكين فحسب، وإنما وجود الشركات الأمريكية نفسها، وحذر عمالقة الصناعة مثل “كاتربيلار”، و”ثرى إم”، و”يونايتد تكنولوجيز” الأسبوع الجارى من أن التعريقات تزيد ضغوط التكاليف عليهم.
وتثبت موجة التصحيح فى الأسواق الأمريكية – التى استمر الاتجاه الصعودى فيها أكثر من أى سوق آخر حول العالم – أن المستثمرين بدأوا أخيراً يستوعبون أن المخاطر ليست بسبب نهاية التيسير الكمى فحسب، وإنما أيضاً بسبب ظهور الحمائية.
ولا يوجد سبب حتى الآن لتحول موجة التصحيح إلى نوبة اضطرابات عارمة، ولكن إذا حدث ذلك، فسوف يكون من الصعب احتواء العواقب نتيحة التآكل فى التعاون متعدد الأطراف، والذى أصبح ترامب وتعريفاته أحد رموزه.
إعداد: رحمة عبدالعزيز