مبادرة “شانج ماى” مصممة لمواجهة نوبات عدم الاستقرار المحدودة
يصر صانعو السياسة الآسيويين على أنهم سيفعلون كل ما بوسعهم لمحاربة عدم الاستقرار المالى باستخدام أساليبهم الخاصة بدلاً من السعى للحصول على دعم من صندوق النقد الدولى، مثلما أجبروا على ذلك خلال الأزمة المالية الآسيوية عام 1997.
ولا تزال ذكرى تلك الصدمة حية فى المنطقة واستمر انعدام الثقة رغم بعض العلاقات الودية التى نشأت فى السنوات الأخيرة، ولكن بدون القوة المالية الإضافية والتعاون بين الدول المختلفة مثل الصين واليابان وإندونيسيا، ستكافح المنطقة للاعتماد على مواردها الخاصة، بجانب تحرير نفسها من صندوق النقد الدولى.
وكان انعقاد الاجتماعات السنوية لهذا العام لصندوق النقد والبنك الدوليين فى إندونيسيا أمراً هاماً، فقبل عشرين عاماً، أى خلال الأزمة المالية الآسيوية، كانت إندونيسيا ضمن الدول التى اضطرت إلى اللجوء لصندوق النقد الدولى، وها هى الآن ينظر إليها على أنها اقتصاد ناجح وعضو يتمتع بالمصداقية فى المجتمع الدولى.
وتجسد إندونيسيا مسار الأسواق الناشئة خلال العقدين الماضيين، فقد دفعت هذه الدول نحو ثلثى النمو العالمى فى الناتج المحلى الإجمالى منذ عام 1997، كما أن حصتها من إجمالى الاقتصاد العالمى تعادل الآن 60% مقابل 43%، مع العلم أن آسيا الناشئة، خاصة الصين، كانت المساهم الرئيسى.
ولكن رغم التقدم الجيد المحرز فى المرونة، من خلال السياسات الاقتصادية السليمة والإصلاحات وزيادة احتياطيات العملات الأجنبية، تظل الأسواق الناشئة عرضة للتقلبات، خاصة الصدمات القادمة من الدول المتقدمة، والولايات المتحدة قبل كل شىء.
وحتى لو كان تطبيع السياسة النقدية للاحتياطى الفيدرالى الأمريكى متوقعاً منذ بعض الوقت، لا يزال من الصعب إدارة اﻷمر فى ظل تدفقات رأس المال قصيرة الأجل إلى السوق الأمريكية، والتى تجتذبها الأسعار العالية.
وتسبب ارتفاع الفائدة وهروب رؤوس الأموال من الأسواق الناشئة فى انخفاض أسعار الصرف وارتفاع الأسعار المحلية وعدم استقرار الأعمال المصرفية المحلية، كما شهد العالم بالفعل اضطرابات مثلما حدث فى تركيا واﻷرجنتين، التى منحها صندوق النقد قرضاً بقيمة 57 مليار دولار، أما فى آسيا، تتفاوض باكستان للحصول على دعم مالى بقيمة 7 مليارات دولار تقريباً من صندوق النقد.
ويمكن القول بأن هذه الدول عرضة للتقلبات بشكل خاص، كما أنها كانت أول الدول المعرضة للخطر عندما شددت السياسة النقدية الأمريكية، ولكن هذه الحالات تشكل أيضاً تحدياً للدول الأكثر قوة، فعلى سبيل المثال تعانى إندونيسيا من انخفاض “الروبية” إلى أدنى مستوياتها مقابل الدولار الأمريكى منذ عام 1997.
وتمتلك آسيا أداة دعم خاصة بها، وهى مبادرة “شيانغ ماى”، وهى اتفاقية متعددة الأطراف أنشئت عام 2010 لتبادل العملات بين رابطة دول جنوب شرق آسيا “الآسيان” بجانب الصين واليابان وكوريا الجنوبية.
وتعتمد هذه الاتفاقية على شبكة أمان مالية قيمتها 240 مليار دولار من الممكن استخدامها فى حالة المشكلات بميزان المدفوعات ومشاكل السيولة قصيرة الأجل.
ولكن من الناحية العملية لم تختبر مبادرة “شيانغ ماى” من قبل لذلك لم يتضح ما إذا كان لديها القدرة على التدخل بطريقة سريعة وموثوقة، وقبل كل شىء لم يتضح ما إذا كان لديها موارد كافية للتصدى لعدم الاستقرار المالى بخلاف التقلبات الصغيرة والمحدودة.
ويمكن لكل عضو من أعضاء المبادرة الاعتماد على خط مبادلة بحد أقصى يتم تحديده على أساس الناتج المحلى الإجمالى للبلد، حيث يمكن سحب 30% فقط من هذا الحد فى حالة عدم ارتباط الدولة ببرنامج مع صندوق النقد الدولى.
وعلى سبيل المثال، يمكن لإندونيسيا سحب ما يصل إلى 22.76 مليار دولار بحد أقصى، ولكن فى حالة عدم ارتباطها ببرنامج مساعدات من صندوق النقد سيكون المتاح للسحب الفورى هو 6.8 مليار دولار، وفى ظل بلوغ الديون الخارجية نحو 340 مليار دولار، أى 34% من الناتج المحلى الإجمالى، فإن إندونيسيا تعد كبيرة الحجم للغاية بالنسبة لمبادرة “شيانغ ماى”.
ويسير الأمر بالمثل مع كوريا الجنوبية، فهى بإمكانها سحب نحو 11 مليار دولار تحت مبادرة “شيانغ ماى” دون مساعدات صندوق النقد الدولى، أما خلال الأزمة المالية العالمية اعتمدت البلاد على خط مقايضة بقيمة 30 مليار دولار مع الاحتياطى الفيدرالى، لسحب 16.35 مليار دولار.
ووفقاً لذلك، تقع آسيا فى موقف صعب، حيث تتعامل مبادرة “شيانغ ماى” مع نوبات صغيرة من حالات عدم الاستقرار المالى، وبالتالي ستجد آسيا صعوبة فى إدارة اﻷزمات الإقليمية دون إشراك صندوق النقد الدولى فى اﻷمر، وهو أمر يمكن حله عبر زيادة حجم الموارد المتاحة لدى المبادرة لإدارة أزمة السيولة طويلة اﻷمد، رغم أنها لا تزال تترك مجالاً لبرامج إنقاذ صندوق النقد الدولى المعقدة التي تدوم لسنوات عديدة.
ومع ذلك، لم تعد الأطراف الموقعة الرئيسية، وهما الصين واليابان، ترغب فى وضع المزيد من الأموال بمبادرة “شيانغ ماى”، لسببين أولهما وجود تكاليف ومخاطر فى توزيع الدولارات على عكس الاحتياطى الفيدرالى الذى يمكنه توفير السيولة الدولارية بدون تكلفة تقريباً، أما السبب الثانى فهو أن زيادة مساهمة الصين واليابان سوف يرجح كفة هاتين الدولتين فى المبادرة على حساب البقية.
ويوجد بديل يتمثل فى دعوة الدول الأخرى ذات المصلحة بالمنطقة، مثل أستراليا ونيوزيلندا، للانضمام إلى المبادرة، وبالتالى إذا قدمت هذه الدول مساهمات كبيرة فقد يضطر الأعضاء الحاليون إلى منحهم حق التصويت، أما التوسع فى وجود دول قمة “الآسيان + 3” وصولاً إلى الدول غير الآسيوية والتى ربما ينظر إليها على أنها قريبة جداً من الولايات المتحدة قد تكون مشكلة سياسية.
وشهدت آسيا نمواً قوياً بشكل ملحوظ خلال العقدين الماضيين، حيث ارتفع الناتج المحلى الإجمالى الإسمى بمقدار يزيد على 3 أضعاف وارتفعت احتياطيات النقد الأجنبى، ولكن هذه الاحتياطيات غير موزعة بشكل متكافئ، فالصين تمتلك نحو 3 تريليونات دولار واليابان 1.2 تريليون دولار، مما يجعل ما يمتلكه البقية يقل عن تريليون دولار.
وإذا تعرضت “شيانغ ماى” إلى أزمة كبيرة للغاية، ربما تتعرض “بكين” و”طوكيو” لضغوط لتوفير موارد الطوارئ مباشرة إذا كانت الدول المتضررة من الأزمة تريد تجنب صندوق النقد الدولى.