بقلم: محمد العريان
مستشار اقتصادي لمجموعة “أليانز”
رفع رئيس الاحتياطي الفيدرالي وزملائه في لجنة السوق المفتوح أسعار الفائدة بمقدار 25 نقطة أساس يوم الأربعاء الماضي، وأشاروا إلى تباطؤ وتيرة الرفع في المستقبل ولكن بأقل مما كانت تأمل الأسواق، مقاومين بذلك الضغوط غير العادية من الساسة وأهم المشاركين في السوق.
ومن خلال القيام بذلك، أعاد البنك المركزي التأكيد على ان تركيزه الأساسي سوف يبقى على الأوضاع المحلية والاقتصاد، ولكن توحي استجابة السوق أن هذه الخطوة ينظر إليها بأنها تؤجج المخاوف وأنها خطأ سياسي وليس صناعة قرار مسئولة، وهذا وما سيحدث خلال الأسابيع القليلة المقبلة يوضح ظاهرة أكبر وهي أن هناك تهديد أن الفيدرالي والبنوك المركزية الأخرى في وضع خاسر فيه بسبب عوامل خارجة عن سيطرتهم في الأغلب.
وتعد أحدث تقييمات الفيدرالي الاقتصادية أقل وردية من سابقاتها وتتضمن مراجعة هبوطية طفيفة للناتج المحلي الإجمالي للعام المقبل، ومع ذلك، يبدو ان صناع السياسة أقل قلقا من الأسواق بشأن أثار الضعف في بقية العالم وأسعار الأصول الهشة فنيا على الاستهلاك والاستثمار المحلي، ولهذا، لا تزال توقعات البنك المركزي لوتيرة رفع الفائدة العام المقبل أعلى من توقعات السوق، ولا يزال صناع السياسة مرتاحين لفكرة أنهم قد يتجاوزون بقدر ضئيل سعر الفائدة المحايد (الذي ينمو عنده الناتج المحلي الإجمالي بمستوياته المعهودة ويكون التضخم مستقرا) في 2020، ورغم أن هذه التوقعات توصف بأنها معتمدة بشدة على البيانات، فقد أغضبت الأسواق بجميع فئاتها.
وهذا الانقسام بين اقتصاد يتوسع بوتيرة قوية وأسواق متقلبة تقع تحت ضغوط متزايدة هو السبب الرئيسي وراء عدم اليقين السابق لاجتماع الفيدرالي والجدال غير المسبوق بشأن نتيجته، وهذا الانقسام يعد في جزء كبير صورة مقابلة للموقف الذي واجهه أسلاف باول عندما تناقض النمو المتباطيء مع انتعاش الأسواق والأصول الخطرة، ولكن بدلا من تقديم دليل على الانفصال بين الاقتصاد والأسواق، يعد التغيير في الواقع اغلاق جزئي للفجوة التي خلقت تحت الرؤساء السابقين للفيدرالي.
ولعدة سنوات بعد الأزمة المالية العالمية في 2008، ظل الاقتصاد الأمريكي محصورا في وضع جديد يتسم بالنمو المنخفض، وارتفاع أسواق الأصول، وانخفاض التقلبات المالية، وهذا كان يعود في جزء كبير إلى قرار البنوك المركزية ذات الأهمية النظامية بتحقيق أهدافها عبر قناة الأصول أي خفض أسعار الفائدة لمستويات قياسية، وشراء الأوراق المالية كوسيلة للتشجيع على تحمل المخاطر، وحث الأسر على الإنفاق والشركات على الاستثمار، كما ساعم النمو العالمي الذي تقوده الصين في تضخم أسعار الأصول وهدوء التقلبات خاصة مع تفوق أسهم الأسواق الناشئة على نظيرتها الأمريكية.
وعبر البعض، بمن فيهم أنا، عن قلقهم من المخاطر والعواقب غير المقصودة لمواصلة البنوك المركزية “تحفيز” الأسواق، ولكن هذه التحذيرات لم تجذب الكثير من الاهتمام، ولأسباب مفهومة مثل أن البنوك المركزية تحركها أهداف اقتصادية نبيلة، كما أن أهميتها ازدادت مع اقتراب العالم من ركود عالمي امتد لسنوات عديدة.
والآن الوضع معكوس: الاقتصاد الأمريكي القوي غير كاف لقمع التقلبات المالية ومقاومة انخفاض الأسعار في سياق الضعف الهيكيلي في الأسواق، وهذا يرجع لخمسة أسباب:
أولا، الآفاق الاقتصادية لأوروبا واليابان والصين غير يقينية بقدر كبير مقارنة بآفاق الاقتصاد الأمريكي، ثانيا الأسواق يجب ان تتكيف مع خسارة السيولة الوفيرة والمتوقعة التي تلقتها من البنك المركزي الاوروبي، ثالثا، تفاقم تحركات الأسعار بسبب انتشار صناديق المؤشرات، واستراتيجيات الاستثمار السلبية، والتدول بالحواسب.
ورابعا، ورث باول سياسة ميزانية تعتمد على عقلية الطيار الآلي التي تميل إلى تكبير تأثير تحركات الأسواق عند أي تغير في توقعات أسعار الفائدة، وأخيرا، يواجه الفيدرالي ضعوطا غير عادية لكي لا يرفع الفائدة.
ورغم أن البنك المركزي الأمريكي يواجه بيئة أكثر تحديا، فإنه في وضع أقل تعقيدا بكثير من نظرائه خاصة المركزي الأوروبي وبنك انجلترا المركزي وبنك اليابان المركزي، نظرا لأن الآفاق الاقتصادية الأضعف بكثير في هذه المناطق تقوض عملية تطبيع السياسة التي أصبحت أكثر إلحاحا ليس فقط بسبب تراجع فاعلية الأدوات غير التقليدية وإنما أيضا للحدود العملية (فعلى سبيل المثال، لم يعد هناك سندات ليشتريها المركزي الاوروبي) والعواقب غير المقصودة.
وكان من المعتاد أن يُختبر روؤساء البنوك المركزية في بداية توليهم للمنصب، ولكن في حالة باول، جاء الاختبار في صورة قرار سياسي مثير بسبب قوى متضاربة من الأوضاع الاقتصادية المحلية وهشاشة الأسواق فنيا وتباطؤ الاقتصاد الدولي، وهذا التضارب لن ينتهي قريبا، ونتيجة لذلك، سوف تعمل البنوك المركزية الآن في بيئة “خاسرة” ولأسباب خارجة عن سيطرتها، بعد أن كانت اللاعب المهيمن الوحيد، وتمتعت بالعقلية السياسية لـ “مهما يتطلبه الأمر” وهو ما ساعد على تقليص مخاطر الركود،
إعداد: رحمة عبدالعزيز. المصدر: وكالة أنباء “بلومبرج”
الاقتصاد الأمريكي القوي غير كافي لقمع التقلبات المالية ومقاومة انخفاض الأسعار
ستعمل البنوك المركزية الآن في بيئة “خاسرة” لأسباب خارجة عن سيطرتها، بعد أن كانت اللاعب المهيمن الوحيد