الثلاثاء الماضى كان يوماً حاسماً فى تاريخ بريطانيا الحديث، وربما فى تاريخ أوروبا كلها، ولكنه بالتأكيد يوم حاسم لمستقبل التيارات اليمينية المنكفئة وطنياً والمناهضة لمد العولمة بجميع تجلياتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
عجزت تريزا ماى، رئيسة وزراء بريطانيا، عن الحصول على موافقة مجلس العموم البريطانى على خطتها للتخارج من الاتحاد الأوروبى المعروف بالبريكست ‘Brexit”.
الشعب الإنجليزى الذى صوّت فى الاستفتاء الشهير لصالح انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبى الذى يبلور تاريخ القارة، ويجسّد آمالها فى اتحاد كونفيدرالى هو الأهم فى التاريخP لم يكد تصويته يحقق غايته، بعد أن أسفر الاتحاد الأوروبى عن وجه مخيف يضع فاتورة معجزة لكل من تسوّل له نفسه التخارج، وتجنّب العدوى المتوقعة من الدول المتعثرة مثل اليونان، وتلك المرشحة للتعثر مثل إيطاليا، وفرنسا وغيرهما.
فى المقابل قام نوّاب ذات الشعب برفض خطة الخروج المؤلمة التى حشدت لها «ماى»، خلال الفترة الماضية، بكل ما أوتيت من قوة، وذلك بأغلبية كبيرة بلغت 432 صوتاً، مقابل 202 صوت.
الرفض هو بمثابة رجوع مؤقت، وربما دائم عن مشروع التخارج الذى من المحتمل أن يطرح فى استفتاء جديد ؛ وهو أيضاً تصويت برفض حكومة «ماى» التى أتوقع أن تسقط وقت كتابة تلك السطور لتتم الدعوة إلى انتخابات مبكرة.
الرفض يربك، أيضاً، حسابات الجميع، يعيد رسم مراكز القوى الإقليمية والدولية فى ضوء اتحاد أوروبى لن تملك الدول الأعضاء الكبرى سوى إنقاذه بأى ثمن، ما دام أن الفكاك منه شبه مستحيل ؛ يعيد اليورو إلى بؤرة الاهتمام، يعدّل بشكل جوهرى تنبؤات كبرى مؤسسات التمويل وبنوك الاستثمار بخصوص تدفقات الاستثمار وحركة بورصات العملات والأوراق المالية وحركة رؤوس الأموال والعمالة.
كل الاحتمالات ستكون قائمة، ولا أحد يستطيع أن يرجّح احتمالاً بعينه بأدوات التحليل التقليدية؛ لأننا بالتأكيد نعيش فترة من الارتباك والعبث وإعادة تشكيل وجه العالم.
الزخم الذى اكتسبه دعاة الشعبوية والردة عن العولمة واللعب على أوتار تحقيق مكاسب اقتصادية مباشرة وغير مستدامة لقطاعات كبيرة من المواطنين الذين يشكلون الكتلة التصويتية الأكبر فى الدول الديمقراطية، فى طريقه إلى الانحسار بعد أن تلقى عدداً من الضربات؛ أبرزها نتائج انتخابات التجديد النصفى للكونجرس، وتصويت مجلس العموم برفض خطة «ماى» للخروج من الاتحاد الأوروبى.
انتصار جديد للديمقراطيين فى الولايات المتحدة وما يمثلونه من مبادئ عبّر عنها الرئيس السابق أوباما فى خطابه الشهير لجماهير الشعب البريطانى عشية التصويت فى الاستفتاء على على البريكست، فى 2016، والذى استهدف به فئة الشباب الذين أكد لهم أن مسار التاريخ الذى رسمته الدول المنتصرة فى الحرب العالمية الثانية هو الأكثر تحضراً وحقناً للدماء وتحقيقاً للتطور والنمو.
لكن كفة كبار السن والفئات الأكثر تضرراً من منافسة العمالة الأوروبية الرخيصة هى التى رجّحت قرار طلاق بريطانيا للاتحاد الأوروبى بصورة لم يكن رئيس الوزراء البريطانى آنذاك ديفيد كاميرون يتوقعها، فأطاح به الاستفتاء كما ينتظر أن يطيح «العموم» بخليفته «ماى»؛ بسبب البريكست أيضاً قاهر حكومات المحافظين.
د.مدحت نافع
رئيس مجلس إدارة الشركة القابضة للصناعات المعدنية