كان انهيار عملتى اﻷرجنتين وتركيا العام الماضى، من بين أكبر الأزمات التى شهدها التاريخ الحديث، إذ خسر “البيزو” اﻷرجنتينى 55% من قيمته الدولارية منذ بداية عام 2018، إلى أن وصل لأدنى مستوياته فى سبتمبر، حين انخفضت الليرة التركية بنسبة 45%، وعادة ما تؤدى الانخفاضات الكبيرة فى قيمة العملات إلى عكس العجز فى الحساب الجارى، حيث تصبح الآليات التجارية مواتية أكثر.
وقالت صحيفة “فاينانشيال تايمز” البريطانية، إن هذا تماماً ما آلت إليه الأمور فى تركيا، إذ أدى انخفاض الليرة إلى أكبر إصلاح فى الحساب الجارى فى تاريخ البلاد، لينخفض العجز من 5.9% من الناتج المحلى الإجمالى خلال الربع الثالث من 2017 إلى 0.9% بعد مضى عام.
وعلى النقيض من ذلك، ارتفع عجز الحساب الجارى باﻷرجنتين، من 5.2% من الناتج المحلى الإجمالى إلى 6.6% خلال الفترة نفسها، رغم أن انهيار عملتها كان أسرع وأكبر من ذلك الانهيار الذى شهدته تركيا.
ويبدو هذا الاختلاف مفاجئاً، خصوصاً أن البلدين كانا يمتلكان الكثير من اﻷمور المشتركة فى أزمتيهما، فلم يكن البلدان يعانيان من أوجه عجز متشابهة فقط، ووفقاً لتقرير الاستقرار المالى العالمى الصادر عن صندوق النقد الدولى برز البلدان بزيادتهما لحصصهما من الديون الخارجية المقومة بالعملات الأجنبية منذ عام 2013، مما زاد درجة تعرضهما إلى التقلبات فى أسعار صرف العملات الأجنبية ومخاطر إعادة تمويل الديون.
وقال روبن بروكس، كبير الاقتصادين فى معهد التمويل الدولى فى واشنطن، إن اﻷرجنتين وتركيا كانتا تديران برامج اقتراض غير مستدامة، كما أشار المحللون إلى أن البلدين كانت لديهما أيضاً مخاوف من ضعف المؤسسات، خصوصاً البنوك المركزية.
وتساءلت الصحيفة البريطانية عن التفسير الكامن خلف وتيرة التكيف المختلفة رغم كل أوجه التشابه الموجودة بين البلدين، لتكمن الإجابة في مزيج من الاختلافات الهيكلية فى القطاع المصرفى وحجم القطاع العام وديناميكيات التصدير.
وأوضح معهد التمويل الدولى، أن الشركات التركية كانت أكثر تعرضاً ﻷزمات سعر الصرف، نظراً لديونها المقومة بالعملات الأجنبية، والتى وصلت إلى ما يعادل 38% من الناتج المحلى الإجمالي بداية العام الماضى، وهو أعلى مستوى مسجل في الأسواق الناشئة بعد المراكز المالية فى سنغافورة وهونج كونج.
وذكرت “فاينانشيال تايمز”، أن ضعف قيمة العملات العام الماضى، أدى إلى ارتفاع تكلفة خدمة هذه الالتزامات بالعملات الأجنبية، مما أدى إلى ارتفاع مخاطر إعادة تمويل الديون، كما ساهم فى الانهيار السريع فى الاستثمار والواردات، وكانت النتيجة الطبيعية لهذه الديون الخارجية الخاصة بالشركات، نمو القروض الممولة من قبل البنوك التركية.
وأشارت بيانات صندوق النقد الدولى، إلى أن الالتزامات الخارجية بلغت نسبتها 24% من إجمالى الالتزامات خلال فترة الأزمة.
وكانت الإلتزامات الأجنبية للبنوك التركية، 6 أضعاف تلك الموجودة فى البنوك الأرجنتينية، التى تعانى من عزلة عن الأسواق الدولية، وتمثل الديون الأجنبية لديها 4% فقط من إجمالى الخصوم، كما أن هذا الوضع ترك البنوك الأرجنتينية معزولة عن انخفاض قيمة البيزو، دون أى تأثير مباشر على التمويل أو الإقراض.
وفى الواقع، استمر الإقراض المصرفى المعدل وفقاً لتأثير العملة فى الارتفاع بالأرجنتين، في حين انهار في تركيا، مما يعكس نسبة الـ 40% من الإقراض المصرفى الموجه إلى القطاع العام فى الأرجنتين، إذ استمر نمو الإقراض السريع للقطاع العام منذ أزمة العملة، معوضا التباطؤ فى إقراض القطاع الخاص.
وفى تركيا، تكاد تكون معدلات إقراض القطاع الخاص، التى تعادل 69% من الناتج المحلى الإجمالى، أكبر 3 مرات من معدلات إقراض الأرجنتين التى تصل إلى 24%، وبالتالى تمتلك تركيا حساسية ائتمانية أعلى تجاه النمو والطلب المحلى، كما أن هذا اﻷمر يفسر الانخفاض الحاد فى الطلب المحلى لدى تركيا والضغط الأكبر على الواردات، بالإضافة إلى ذلك، تعد الأحجام النسبية للقطاعات العامة والخاصة فى البلدين، مهمة أيضاً بالنسبة لحساباتهم الجارية. فقد كان العجز الكبير فى الموازنة العامة بالأرجنتين فى السنوات الأخيرة يدل على أن عجز الحساب الجارى كان مدفوعاً بالقطاع العام، أما عجز الموازنة التركية اﻷكثر اعتدالاً جعل القطاع الخاص المحرك اﻷساسى للاقتصاد.
وقال إينان دمير، رئيس الاقتصادات الناشئة فى أوروبا والشرق اﻷوسط وأفريقيا لدى “نومورا” فى لندن، إن هذا اﻷمر بإمكانه أن يتغير بالنسبة لتركيا فى المستقبل، وأشار دمير، إلى أن انكماش الطلب المحلى يمكن أن يضر بمتطلبات الحكومة للاقتراض، باعتبار أن الاقتصاد الضعيف يعنى ضعف تحصيل الضرائب وإنفاق أسرع لدعم النشاط الاقتصادى، كما أن مشاكل القطاع الخاص يمكن أن تنتقل إلى موازنة القطاع العام.
وتتميز اﻷرجنتين بمزايا عديدة أخرى، مثل التغير فى التمويل المالى اعتباراً من عام 2016، إذ تحولت الحكومة من طبع النقود إلى تمويل العجز، كما اتجهت الحكومة إلى الاقتراض من اﻷسواق الخارجية، فى محاولاتها لكبح التضخم، مما أدى إلى ارتفاع الديون المقومة بالدولار، وبالتالى ارتفاع قيمة الديون الخارجية للحكومة بأكثر من 4 أضعاف كنسبة من الناتج المحلى الإجمالى، مقارنة بأى سوق ناشئة رئيسية أخرى فى العام الماضى.
وقال رافائيل دي لا فوينتى، رئيس اقتصادات أمريكا اللاتينية فى بنك “يو.بي.إس” فى نيويورك، إن تسديد هذه الديون كان عاملاً فى تعديل الحساب الجارى البطىء فى الأرجنتين.
ويظهر تحليل البيانات أن تكاليف خدمة الديون تمثل الآن أكثر من نصف عجز الحساب الجارى، مقارنة بما يقارب الخمس في تركيا، وهذا يجعل اﻷرجنتين أكثر عرضة أيضا إلى ارتفاع أسعار الفائدة الأمريكية، وعاد نمو الصادرات فى الأرجنتين إلى المنطقة الإيجابية خلال الأشهر الأخيرة من العام الماضى، رغم أنه لايزال متخلفاً عن معدلات نمو الصادرات التركية، حيث كان بإمكان قاعدة التصنيع الأكبر الاستفادة أكثر من انخفاض قيمة العملة.
وبدأت الأسواق فى كلا البلدين تتعافى من خسائر العام الماضى، فقد أصبحت الليرة التركية الآن أقوى بنسبة 30% مقابل الدولار، بعد أن وصلت إلى أدنى مستوياتها العام الماضى، فى حين ارتفع البيزو اﻷرجنتينى بنحو 10%.
وانخفضت أسعار الفائدة السوقية من أعلى مستوياتها رغم بقاء السياسة النقدية عند مستويات الأزمة، ولكن مع ارتفاع أسعار الفائدة لمدة شهر إلى 39.4% فى الأرجنتين و23.6% فى تركيا، فإن كلا البلدين يظلان من بين أعلى المعدلات فى الأسواق الناشئة.
وتأتي أسعار الفائدة العالية على خلفية الانكماش الاقتصادى الشديد فى كلا البلدين فقد تراجع الناتج المحل الإجمالى فى تركيا بنسبة 1.1%، بشكل ربع سنوى فى الربع الثالث من العام الماضى، وتشير المؤشرات الأولية إلى ارتفاع الانكماش الاقتصادى فى الربع الرابع.
وأضاف دمير، أنه عندما تصدر بيانات الناتج المحلى الإجمالى للربع الرابع، من المرجح جداً أن تؤكد التعريف التقليدي للركود، وفي الواقع تشير المؤشرات إلى انخفاض النمو الاقتصادى سريعاً بدلاً من كونه ركوداً اقتصادياً فحسب.
ويقدر خبراء الاقتصاد انكماش اقتصاد الأرجنتين سريعاً، متوقعين بالإجماع وصول نسبة نمو ناتجه المحلى الإجمالى فى العام الحالي إلى -1%، فى حين يبدو اقتصاد تركيا أكثر عرضة من اﻷرجنتين إلى المخاطر الخارجية التى تواجهها الأسواق الناشئة، من حيث انخفاض تدفقات رأس المال إثر ارتفاع أسعار الفائدة الأمريكية وتباطؤ النمو العالمي والتوترات التجارية المستمرة.
ومع ذلك، توجد العديد من العوامل التي تدعم الانتعاش المستمر فى الليرة وتسمح بانخفاض أسعار الفائدة، فى ظل دخول الحساب الجارى فى حالة فائض على أساس شهري، وبدء تلاشى التوترات الجيوسياسية التي عانت منها البلدان العام الماضى، وانخفاض معدلات التضخم بالفعل، بجانب عدم ارتفاع التباين بين العملات الشركات.