بقلم: محمد العريان، المستشار الاقتصادى لمجموعة “أليانز”
من فترة ليست ببعيدة، جرت المعتقدات أن “الظاهرة اليابانية” لن تحدث فى الاقتصادات الغربية، وهو ما قاد الاقتصاديون الأمريكيون إلى المجادلة بأنه إذا اجتمع فى يوم من الأيام تهديد النمو المنخفض مع الانكماش وأسعار الفائدة المنخفضة لفترة طويلة، فإن صناع السياسة سوف يكون لديهم الأدوات للتعامل مع هذا الوضع، ولم يكن لديهم أى مشكلة فى إعطاء دروس لليابانيين بشأن الحاجة لإجراءات جريئة لسحب دولتهم من هذا الخندق الذى مكثت فيه لعقود، وتم اعتبار الظاهرة اليابانية كنتيجة يمكن تجنبها من خلال اتخاذ القرارات السياسة المناسبة، وليس كنتيجة حتمية.
ومع ذلك، يلوح الآن شبح الفخ اليابانى فوق الغرب، وبعد الأزمة المالية العالمية فى 2008، كان التعافى بكلٍ من أوروبا والولايات المتحدة أكثر بطئاً وأقل شمولية.
ومؤخراً تبددت آمال تحقيق “سرعة الهروب” من “الوضع الطبيعى الجديد” المتمثل فى النمو المنخفض والضغوط الانكماشية المتواصلة خاصة فى أوروبا واليابان، ويقلق البعض من أن الآمال بدأت تنحسر أيضاً فيما يتعلق بالاقتصاد الأمريكى.
وعادت أوروبا بشكل خاص إلى التباطؤ المقلق عبر المنطقة بأكملها، ويتم مراجعة توقعات النمو بشكل مستمر لمستويات أدنى، وأقر البنك المركزى الأوروبى أن التفاؤل المبكر بشأن تحقيق التضخم المستهدف كان فى غير محله، وفى ظل تراجع العائد على السندات الحكومية، وصل حجم التداول العالمى فى الأوراق المالية سلبية العائد حوالى 10 تريليونات دولار.
وفى الوقت نفسه، تقترب اليابان من العقد الرابع على التوالى من الضعف المتواصل فى النمو والتضخم وأسعار الفائدة، وفى الولايات المتحدة يقلق عدد متزايد من الاقتصاديين من ركود قادم، ويحث بعضهم الفيدرالى على خفض الفائدة، ويدعوه البعض لتبنى مستوى تضخم أعلى لمكافحة مخاطر الانكماش المفرط، ولكن هل كان كل هؤلاء الاقتصاديون الغربيون الذين تجاهلوا تهديد الفخ اليابانى فى الماضى ساذجين جداً؟ الإجابة “نعم” و”لا”.
فالفخ اليابانى اليوم ينبع من مخاوف شرعية بشأن القوى الانكماشية الهيكلية التى يمكن أن تتسبب فى نمو أضعف وأقل شمولية بشكل مباشر وغير مباشر، وهذه العوامل تتضمن، الشيخوخة المجتمعية، وارتفاع عدم المساواة فيما يتعلق بالدخل والثروة والفرص، وعدم الآمان الاجتماعى والاقتصادى بين قطاعات واسعة من السكان، وفقدان الثقة فى المؤسسات وآراء الخبراء.
ويتعرض النمو للخفض بطرق غير مباشرة، فعلى سبيل المثال، تميل أسعار الفائدة المنخفضة – والسلبية فى بعض الأحيان – إلى إضعاف النزاهة المؤسسية والفاعلية التشغيلية للنظام المالى، ما يؤدى إلى تقليص الإقراض المصرفى، والحد من المنتجات طويلة الأجل التى يمكن أن تقدمها شركات التأمين والتقاعد للأسر، ويوجد أيضاً تأثير غير مباشر آخر ينبع من التوقعات بشأن المستقبل، وكلما كان النمو والتضخم منخفضان، تميل الأسر والشركات أكثر إلى تأجيل قرارات الاستهلاك والاستثمار، ما يطيل فترة انخفاض النمو والتضخم.
وقلل الاقتصاديون الغربيون فى البداية من تهديد الفخ اليابانى لأنهم استخفوا أو ببساطة تجاهلوا هذه العوامل المباشرة وغير المباشرة، وبالنظر إلى الوراء، لا ينبغى أن يندهش هؤلاء الاقتصاديين من أن المجتمعات صاحبة أعلى معدلات الشيخوخة وأقل هجرة داخلة هم الأكثر معاناة الآن من الفخ اليابانى.
ومع ذلك، لم يخطئ هؤلاء الاقتصاديون فى أن السياسات يمكن أن تلعب دوراً حاسماً فى النتائج الاقتصادية الكلية، خاصة عندما يتم تضخيم العوامل الهيكلية من خلال التشديد النقدى الدورى المفرط، كما حدث فى اليابان عام 1989، وتكمن المشكلة فى أنهم ركزوا بحدة على السياسة النقدية وبالغوا فى تقدير فعاليتها، وتحتاج الدول التى تخضع لتهديد الفخ اليابانى لمجموعة أوسع من السياسات لمعالجة جانبى العرض والطلب فى الاقتصاد.
وتكون السياسة النقدية عادة أقل فاعلية عندما تكون الفائدة قريبة من الصفر، وكذلك فى السيناريوهات التى تنشط فيها عوامل “فخ السيولة”، حيث تكون الفائدة منخفضة ومعدلات الادخار عالية، وتشترى برامج التيسير الكمى بعض الوقت من خلال ضخ السيولة فى النظام مباشرة، ولكنهم لا يعالجون المشكلات الكامنة، كما يأتون بتكلفة وأشكال من الأضرار الجانبية والعواقب غير المقصودة.
وأفضل حماية من الفخ اليابانى هو خليط من تدابير العرض والطلب على المستوى الوطنى والإقليمى “فى حالة أوروبا” والعالمى، وفى الدول التى تتمتع بالمساحة المالية الكافية، يمكن أن يعنى ذلك موازنات مالية فضفاضة واستثمارات أعلى لتحسين الإنتاجية فى البنية التحتية والتعليم والتدريب، أما فى الدول التى تعانى من نقص المهارات، يمكن أن تساعد السياسات الأفضل لتسهيل حراك العمالة فى سد هذه الفجوة.
وعلاوة على ذلك، سوف تحتاج هذه السياسات إلى أن يصاحبها وسائل حماية أكثر فاعلية لأكثر الشرائح ضعفاً فى المجتمع، خاصة فيما يتعلق بالصحة والتدريب، ولن يتحقق أياً من ذلك بدون قيادة سياسية أفضل وتفاعلات سياسية عالمية أكثر تنوراً.
ويقدم الفخ اليابانى 3 دروس يتعين على صناع السياسة والساسة الغربيين تطبيقهم محلياً، الأول: الضغوط الهيكلية تجعل العمل الحثيث لعكس انخفاض النمو والتضخم وأسعار الفائدة الصفرية أكثر إلحاحاً، الثانى: التدابير النقدية غير التقليدية يمكن أن تكون ضرورية ولكنها غير كافية، والثالث: عندما نضع الاستجابة السياسية الشاملة المطلوبة، يجب أن ندرك أن العقبات ليست فنية وإنما سياسية.
إعداد: رحمة عبدالعزيز
المصدر: موقع “بروجيكت سنديكيت”