برنامج الذكاء الاصطناعى كلمة سر الخطط المستقبلية لحكومة بكين
مبادرة “الحزام والطريق” تعزز شبكة علاقات دولية عابرة للقارات
المصالح الجيوسياسية تختلط بمشاريع التعاون الاقتصادى الإقليمية
10 سنوات وضعت الصين كشريك تجارى أول لأفريقيا بدلاً من أمريكا
تحت قيادة الرئيس دونالد ترامب، تنأى الولايات المتحدة الأمريكية تدريجياً عن دورها القيادى العالمى؛ حيث يرغب بوضوح فى إنفاق الدولارات الأمريكية على الشعب الأمريكى.
وتماشياً مع هذه الروح انسحبت أمريكا من المعاهدات الرئيسية للتركيز على الحصول على مكانة خاصة بها يمكن القول إنها تأتى بمعزل عن الثقافة الأمريكية للإيثار المفترض والتى يشهد عليها طبيعة الاتفاقات الاقتصادية للتعاون فى اتجاهات الشمال والجنوب وعبر الأطلسى ومع الصين نفسها عدوها اللدود.
تعهد الرئيس ترامب بوضع حد للتقليد الأمريكى القديم المتمثل فى كونه مانحاً شهيراً للعديد من الدول التى تأخذ من الولايات المتحدة، دون إعطاء أى شىء فى المقابل، ومثل هذا الموقف التطلعى الداخلى بالنسبة لمن يعتبرونه إيجابياً خلق وظيفة شاغرة لقائد عالمى يحرك المجتمع الدولى.
* تطور التقنيات العسكرية
تتصدر الصين المرشحين الكبار فى القائمة القصيرة، والتى تضعها كثانى أكبر اقتصاد فى العالم، وقد وفرت ما يقرب من ثلث النمو العالمى فى عام 2017.
وتخطط الحكومة الصينية لاستخدام أكبر عدد من سكان العالم للاستفادة من تجربتها التكنولوجية، وتأمل أن تتفوق على جميع الدول الغربية من حيث تنفيذ برامج الذكاء الاصطناعى.
وأدت الرقابة التى فرضها الحزب الشيوعى على شركات الإنترنت الغربية إلى ظهور عمالقة التكنولوجيا الصينيين، والتى بدأت فى تشكيل مستقبل التكنولوجيا العالمية، وقد يصل الأمر إلى التحكم فيه بحسب خطط بكين الطموحة بامتلاك أكبر 5 شركات فى العالم.
ويشير تقرير لـ”فورين بوليسى” إلى أن منصب الريادة العالمية فى العصر الحديث يتطلب الابتكار والقدرة على مواكبة التطورات الرقمية، وهو تحدٍ يأخذه الصينيون بجدية بالغة.
وعلى الجبهة العسكرية، تتمتع الجمهورية الشعبية بأحد أعلى النفقات العسكرية فى العالم رغم أنها تتخلف كثيراً عن الإنفاق الأمريكى من الناحية الاستراتيجية؛ بسبب اختلاف طبيعة الجغرافيا والتهديدات والتحديات الإقليمية، لكن بيانات الموازنة العسكرية تقول إن الطموح الصينى فى التنافس مع القوى الكبرى المتصارعة لا حدود له.
وتقف الصين وفقاً لتقرير صادر عن وكالة المخابرات فى المقدمة على صعيد مجموعة من التقنيات العسكرية التى ستسمح للصين بفرض إرادتها فى المنطقة، وهذا يمكن أن يهدد النظام الدولى بالنسبة للولايات المتحدة المترددة بشكل ملحوظ وهذا التردد يمكن أن يعزز نفوذ الصين الإقليمى، وحتى العالمى.
*سياسة أمريكية حمائية
تركز الولايات المتحدة وإدارة البيت الأبيض فى عهد دونالد ترامب على كبح النفوذ الاقتصادى للصين وتنتهج واشنطن موقفاً أكثر حمائية.
وتبرر الأرقام الصدمة فى الداخل الأمريكى حيث يصل العجز التجارى 29 مليار دولار بين البلدين لصالح الصين وهو أمر يحتاج إلى خطة شاملة للمواجهة.
ويعتقد المسئولون الأمريكيون فى البيت الأبيض أنه من خلال فرض ضرائب على واردات الصين، ستبدو المنتجات الأمريكية المحلية أكثر جاذبية للعملاء الأمريكيين وستعزز الاقتصاد الأمريكى.
تتبع الصين طوال الوقت نهجاً يركز على الصادرات الخارجية لتدعيم خططها التجارية العالمية معتمدة على قوة هائلة لبنيتها التحتية وقد صاغ الرئيس “شى” أكبر مشروع للبنية التحتية فى العالم، ومبادرة “الحزام والطريق” التى تبلغ تكلفتها 900 مليار دولار، وترمى هذه الخطة الطموحة للغاية إلى تعزيز وجود الصين فى العالم لعدة قرون قادمة كرائدة وقائدة.
وتفتح المبادرة أسواقاً جديدة للسلع والتكنولوجيا الصينية وتربط آسيا مع إفريقيا وأوروبا ومن خلال الاستثمار فى الطرق والموانئ والمطارات والسكك الحديدية والطرق البحرية سيصبح الوصول أكثر يسراً وأقل تكلفة فى حين تبقى الولايات المتحدة مترفعة حتى الآن عن مناقشة المبادرة من حيث الفوائد الممكنة لها.
*خطة مارشال صينية
تمثل منطقة المبادرة ثلث التجارة العالمية والناتج المحلى الإجمالى وأكثر من 60% من سكان العالم، ويشرح هذا النطاق الهائل للمشروع فائدته فى تعزيز دور الصين كقائد عابر للقارات مرتكزاً على شبكة علاقات تجارية واقتصادية وسياسية قوية من حيث الروابط المتينة.
ويقارن بعض الخبراء مبادرة “الحزام والطريق” بما قدمته خطة “مارشال” لعام 1948 التى رسمتها الحكومة الأمريكية لإعادة بناء أوروبا الغربية التى دمرتها الحرب العالمية الثانية وتكلفت مليارات الدولارت.
ولا يمكن تجاهل الدور السياسى لخطط الصين الاقتصادية بما فيها مباردة “الحزام والطريق” لتوحيد الدول الشريكة ضد الولايات المتحدة الأمريكية على نفس نهج خطة “مارشال” التى طورت بعداً سياسياً يرمى إلى احتواء الاتحاد السوفيتى الشيوعى السابق، ويمكن للصين استخدام هذه الخطط لاحتواء النفوذ الاقتصادى العالمى لأمريكا، فضلاً عن انتزاع النفوذ السياسى الدولى المدعوم بقوتها العسكرية الهائلة.
ولا تتحرك الولايات المتحدة بالسرعة المطلوبة لمواجهة النفوذ الإقليمى المتزايد للصين ويمكنها ذلك بعدة طرق.
ويمكن لأمريكا خلق معارضة فى الدول الشريكة لكن يجب توفير بديل بتعزيز المشاركة الاقتصادية للولايات المتحدة معها ومع المنطقة إجمالاً، كما تحتاج الولايات المتحدة لتشجيع حلفائها على تجنب المشاركة وكذلك تعويضهم بعلاقات أقوى وميزات تنافسية.
لكن تقرير “فورين بوليسى” يعترف بأن هذه الجهود قد لا تفعل الكثير لردع خطط الصين العالمية واسعة النطاق والتأثير.
* الدوافع السياسية
لفت التقرير إلى أن الدول المشاركة بمبادرة “الحزام والطريق” فى الأساس جرى تسويق المشروع لها على أساس أنها فى أمس الحاجة إليه كى تطور البنية التحتية لديها ومعظمها دول تعانى مشكلات اقتصادية مستعصية مثل باكستان وبنجلاديش وكينيا، على سبيل المثال لا الحصر من بين 65 دولة مشاركة.
وتجد هذه الدول فى مثل هذه الاتفاقيات التعاونية فرصة لا تعوض كبرنامج تنمية داخلى يفوز فيه الجميع سواء الصين والدول المشاركة، خاصة أن الدوافع السياسية فى هذه البرامج تحرص بكين على عدم إظهارها بشكل مباشر على عكس الولايات المتحدة.
ومع ذلك، لن تخلو بالقطع هذه الخطط من استراتيجية جيوسياسية وهى مسالة ذات أهمية كبيرة فى المنطقة المحيطة.
ورغم ذلك، صرح الرئيس الصينى شى جينج بين، صاحب أحد أهم تصنيفات الشخصيات الأكثر تأثيراً فى العالم بأن بلاده لن تسعى أبداً للهيمنة أو التوسع أو الاستحواذ على مجال للنفوذ الخاص.
ويشير واقع السياسة الخارجية الصينية إلى خلاف ذلك؛ حيث سعت الإدارة الصينية لتوسيع عملياتها العسكرية فى بحر الصين الجنوبى المتنازع عليه بشدة، من خلال عسكرة الجزر الاصطناعية التى يمر عبرها أكثر من 5 تريليونات دولار من التجارة كل عام.
وتهدف هذه الجهود إلى سحق حقوق تايوان وفيتنام والفلبين وماليزيا وإندونيسيا المجاورة والتى تطالب جميعها بنصيبها من جزر ومناطق مختلفة فى بحر الصين الجنوبى.
ويثبت مضيق “ملقا” أن هناك حاجة صينية لإحداث تحول فى طريقها لقيادة العالمية الصينية، وهى مسألة تسعى مبادرة “الحزام والطريق” إلى معالجتها، ففى حين يحمل مضيق “ملقا” ما يقدر بـ25 إلى 40 % من إجمالى التجارة كل عام فإنه يربط الاقتصاديات الآسيوية الكبرى من خلال تسهيل تجارة البترول والموارد الطبيعية ومختلف المنتجات المصنعة.
الوجه الآخر من العملة يقول، إن المضيق هو نقطة خنق بحرية وعرضة للقرصنة والاختطاف، وهو ما يمثل تخوفاً كبيراً للصين؛ حيث تعتمد على المضيق فى 70 إلى 85 % من إمداداتها البترولية المستوردة.
للتغلب على “معضلة ملقا” ستعتمد الصين على الاستفادة من تطوير النبية التحتية فى مشروع “الحزام والطريق”؛ حيث يجرى خلق مصادر مختلفة للطاقة، وبالتالى تقوم الصين بإنشاء طرق استيراد جديدة مثل ميناء “جوادار” الذى يتم تطويره فى باكستان تحت الممر الاقتصادى الصينى الباكستانى، ما يوفر طريقاً بديلاً للشحن إلى مضيق “ملقا”.
* الصين فى إفريقيا
بالإضافة إلى ذلك، تعمل الصين على تعزيز التجارة فى القارات الأخرى لعرض نفسها كحليف رقم واحد للدول التى تتعاون معها اقتصادياً فمنذ ما يقرب من عقد من الزمان، تفوقت الصين على الولايات المتحدة لتصبح أكبر شريك تجارى لأفريقيا، ومنذ ذلك الحين تكثف الجهود لتطوير العديد من البلدان فى أفريقيا.
وأعلن الرئيس الصينى خلال منتدى التعاون بين الصين وأفريقيا عن تمويل خطط بقيمة 60 مليار دولار فى أشكال مختلفة، بما فى ذلك القروض والمنح بدون فوائد.
وتحمل الصين سجلاً تاريخياً فى محاربة الفقر مثيراً للإعجاب، ومن المحتمل أن يكون ذلك تفسيراً مهماً فيما يتعلق بحضور 53 من القادة الأفارقة القمة لتعزيز العلاقات الصينية – الأفريقية للاستفادة من تجربة بكين.
وعلى الصعيد المحلى، نجحت الصين فى خفض معدل الفقر المدقع من 84٪ عام 1980 إلى 10٪ الآن وتأمل الدول الأفريقية فى أن يكرر التوجيه الصينى هذا النجاح فى أفريقيا، كما تشير بيانات البنك الدولى إلى أن 28 بلداً أفريقياً ضمن أفقر 34 دولة على مستوى العالم.
* من تنافس تجارى إلى صراع مسلح
الخلاصة أنه فى الوقت الذى تتراجع فيه واشنطن وتنسحب تسير بكين للأمام وتحتل مكانها لكن الأمر ليس بهذه البساطة.
يشكل التأثير الاقتصادى المتنامى للصين مصدر قلق كبيراً للولايات المتحدة لكن كما يقول المؤرخ اليونانى “ثوسيديدس” توجد حتمية لأن الحرب ستندلع بين قوة متنامية وقوة موجودة فعلاً بسبب مصالحهما المتعارضة تماماً.
صاغ هذا المفهوم العالم السياسى جراهام أليسون باعتباره “مصيدة ثوسيديدس” استناداً إلى فكرة أن القوة الصاعدة فى هذه الحالة الصين تنافس قوة حاكمة هى الولايات المتحدة الأمريكية، ويمكن أن تزعزع النظام الدولى وتثير الصراع، لكن الرئيس “شى” زعم أن الصين تفتقر إلى الجينات اللازمة للانخراط فى مثل هذا السلوك المدمر.
ويبقي الوضع رهن ما إذا كانت الصين ستعدل وراثياً الحمض النووى الخاص بها لتبنى موقف أكثر عدوانية وإضافة المزيد من العداء للعلاقة الصينية الأمريكية وهى مسألة لا يمكن رؤيتها بعد.
ومن الواضح أن الرئيس “شى” يعزز مكانة الصين فى المجتمع الدولي لقرون قادمة، فى حين أن الرئيس ترامب لا ينظر إلى أبعد من إدارته، بينما تتراجع واشنطن وتنسحب، تتواصل بكين وتتقدم.
ولا تسعى الصين إلى الإخلال بالنظام الدولى، ولكن لإعادة اختراعه، وعند القيام بذلك، قد يؤدى الطريق الطويل فقط إلى وجهة أكبر تحمل لافتة: “القيادة العالمية الصينية”.