بقلم: محمد العريان، مستشار اقتصادى لمجموعة “أليانز”
تغير الجدال بشأن التضخم فى الأسواق المتقدمة بشكل ملحوظ على مدار العقود الماضية، وبخلاف مشكلات “سوء التقدير”، تبددت المخاوف منذ وقت طويل بشأن التضخم المرتفع بحدة والقوة المفرطة لسوق السندات، ويكمن القلق الآن فى أن التضخم شديد الانخفاض قد يعوق النمو.
وعلاوة على ذلك، فإن وجود سندات سلبية العائد بقيمة 11 تريليون دولار تقريباً ربما يتسبب فى سوء توزيع الموارد وتهديد الأمن المالى طويل الأجل للأسر، كما أن أسعار الأصول المبالغ فيها تسلط الضوء على مخاطر عدم الاستقرار المالى المستقبلى، كما أصبح المستثمرون شديدى الاعتماد “بسعادة” على البنوك المركزية فى الوقت الذى ينبغى أن يكونوا أكثر خوفاً وتحسباً منهم.
وبحثاً عن طرق جديدة لرفع مستوى التضخم، تفضل البنوك المركزية العقلية الدورية، وتشير مراراً وتكراراً إلى الطلب الكلى غير الكافى، ولكن ماذا إذا كانت عدسة الطلب ليست العدسة المناسبة للنظر إلى الأوضاع الراهنة، وكنا بالفعل فى وسط عملية متعددة المراحل سوف تمهد فيها القوى الانكماشية القوية فى جانب المعروض الطريق فى النهاية لعودة التضخم المرتفع؟ فى هذه الحالة، يتعين على صناع السياسية والمشاركين فى السوق التفكير فى هيكل فرص ومخاطر مختلف عن الهيكل الحالى.
ويبدو التضخم المنخفض بشكل يثير الدهشة حالياً مرتبط بقوى هيكلية أكبر، وهو ما يعنى أنه لا يرجع فقط إلى الطلب الإجمالى غير الكافى، فقد تسببت الابتكارات التكنولوجية، خاصة تلك المتعلقة بالذكاء الاصطناعى، والبيانات الكبيرة، وقابلية التنقل، فى تفكك عام للعلاقات الاقتصادية التقليدية وفى تآكل القوة التسعيرية، وانا أطلق على تلك القوى الهيكلية “تأثير أمازون /جوجل / أوبر”، فبينما يساعد نموذج “أمازون” على خفض الأسعار من خلال مساعدة المستهلك على تجاوز العديد من الوسطاء الأكثر تكلفة، يحد “جوجل” من القوة التسعيرية للشركات من خلال خفض تكاليف البحث، أما “أوبر” فيجلب الأصول الحالية إلى سوق العمل، ما يؤدى إلى تآكل القوة التسعيرية للشركات أكثر.
وعزز تأثير “أمازون / جوجل / أوبر” عملية انكماشية بدأت مع تسارع العولمة، ما أدى إلى انخفاض تكلفة الإنتاج وقلص قوة العمالة المنظمة فى الاقتصادات المتقدمة وكذلك كان لاقتصاد العمل الحر نفس التأثير، ولكن رغم أن هذه الاتجاهات سوف تستمر فى الحاضر، فإنها سوف تواجه تأثيرات تضخمية تعويضية والتى لم تصل بعد إلى مرحلة حرجة، ولكن التباطؤ فى سوق العمالة يتراجع كل شهر، بينما يعطى التركز الصناعى المتزايد بعض الشركات، خاصة فى قطاع الكنولوجيا، قوة تسعيرية أكبر بكثير.
والآن، فكر فى هذه الاتجاهات فى سياق التغير بالمشهد السياسى حالياً الذى يتبنى فيه المزيد من الساسة الاتجاه الشعبوى بدافع من الغضب المفهوم بشأن عدم المساواة فى الدخل والثروة والفرص، ويعدون بإدارة مالية أكثر نشاطاً وتدابير للحد من قوة رأس المال لصالح العمالة، وفى نفس الوقت، هناك ضغوط سياسية متزايدة على البنوك المركزية لتجاوز قناة الأصول أى مشتريات السندات عبر برامج التيسير الكمى وضخ سيولة بشكل مباشر فى الاقتصاد.
كما أن المخاوف الاقتصادية تقود السياسات المناهضة للعولمة، ويهدد استخدام الأدوات السياسية الاقتصادية كأسلحة مثل التعريفات وغيرها من التدابير التجارية بتقسيم العلاقات المالية والاقتصادية العالمية، وبرفع الأسعار، ويفرض درجة أعلى وأكثر تكلفة من تأمين الذات من قبل الأسر والشركات، وفى نفس الوقت، تترسخ توقعات استمرار التضخم المنخفض لدرجة قد تجعل أى ارتفاع فى الأسعار يسبب صدمة تكشف مواطن الضعف وتزيد مخاطر الأخطاء السياسية والاضطرابات السوقية.
وبالنظر إلى كيف ستتطور هذه العوامل المتنافسة عبر الوقت، ينبغى ألا يستبعد صناع السياسة والمستثمرون عودة التضخم المرتفع مع الوقت، وبالنظر إلى المستقبل، فسوف نواجه على الأرجح مرحلة مبدأية سوف يظل فيها تأثير “أمازون / جوجل / أوبر” مسيطراً، ولكن قد يلي ذلك مرحلة ثانية قد تبدأ فيها أسواق العمالة المتشددة التى يزداد فيها عدد الوظائف عن الموظفين والقومية الشعبوية والتركز الصناعى فى تخفيف الآثار الهيكلية للتكنولوجيات الواسعة التى تم تبنيها، وفى المرحلة الثالثة، قد يتفاجئ صناع السياسة والمستثمرين ببدء ارتفاع التضخم ما قد يؤدى إلى ردود أفعال مبالغ فيها تجعل الوضع السئ أكثر سوءاً.
وكما هو الحال مع معظم التحولات فى النماذج، يكون هناك القليل من اليقين بشأن توقيت هذا السيناريو، ولكن فى كل الأحوال، يتعين على صناع السياسة فى العالم المتقدم إدراك أن آفاق التضخم لديهم تخضع لمجموعة واسعة من الاحتمالات الديناميكية التى لم يفكروا فيها حتى الآن، فالتركيز الزائد على العقلية الدورية بدلاً من الهيكلية قد يهدد بمخاطر جدية للصحة الاقتصادية المستقبلية والاستقرار المالى، وكلما تأخرنا فى توسيع العقلية السائدة، ستزداد احتمالات انتقالنا إلى المراحل المقبلة من العملية التضخمية التى يؤدى فيها تأثير الحدث التكنولوجى إلى بعض الميول القديمة والمألوفة.
إعداد: رحمة عبدالعزيز
المصدر: موقع “بروجيكت سنديكيت”