بقلم هاني أبوالفتوح ؛ كاتب رأى.
لا يوجد تعريف متفق عليه عالمياً للفساد؛ نظراً إلى اختلاف القيم والبيئة الاجتماعية والقانونية بين الدول.
لكنَّ بعض التعاريف أصبحت مقبولة الاستخدام على نطاق واسع، مثل تعريف البنك الدولي للفساد أنه “إساءة استغلال السلطة العامة لتحقيق مكاسب خاصة”.
وهناك تعريف آخر لمنظمة الشفافية الدولية حيث يُعرف الفساد بأنه “إساءة استغلال السلطة المخولة لتحقيق مكاسب خاصة”. وهذا التعريف يشمل الأموال العامة والخاصة.
سوف أعرض في هذا المقال أسباب الفساد؛ لأنه بدون فهم عميق وإدراك للأسباب، يكون من الصعب اقتراح حلول لمواجهة هذه الظاهرة المدمرة التي أصبحت تؤرق الحكومات حول العالم. وفي هذا الصدد، سوف أسترشد بـ”الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد، 2014 – 2018″ التي أعدتها اللجنة الوطنية الفرعية لمكافحة الفساد. تتناول “الاستراتيجية” بالتحليل أسباب الفساد وتبويبها وفقاً لتجانس كل مجموعة من الأسباب. كما سأتناول بالعرض ملخصاً لهذه الأسباب فيما يلي:
أولاً: أسباب إدارية
تعاني الهياكل التنظيمية للجهاز الحكومي والإداري للدولة من قصور مما يجعلها لا تلبي احتياجات المواطنين من الخدمات الحكومية بشكل ملائم، ويجعل المواطن أكثر استعداداً لدفع مبالغ غير مصرح بها في سبيل إنجاز معاملته أو الحصول على الخدمة بشكل أفضل.
وفي نفس السياق، تؤدي البيروقراطية الحكومية وتعقد الإجراءات إلى فتح الباب على مصراعيه للرشاوى في سبيل إبداء المرونة تجاه بعض الإجراءات المعقدة، أو الحصول على معاملة متميزة لتجنب التكدس في منافذ تقديم الخدمات الحكومية.
ويؤدى ضعف الرقابة الداخلية على الأجهزة الحكومية إلى وقوع الممارسات الفاسدة. يتمثل أهم مظاهر ذلك الضعف في عدة عوامل منها عدم مراعاة تضارب المصالح لدى المسئول الذي تعرض عليه تقارير الرقابة الداخلية، وعدم توقيع عقوبات فعالة ورادعة في حالات المخالفات، وغياب وسائل إبلاغ الموظف عن الممارسات الفاسدة.
ونتيجة القصور في نظم التعيين والترقية واستخدام الوساطة والمحسوبية في الجهاز الإداري للدولة، فقد تكدست الجهات الحكومية ببطالة مقنعة وأصيبت بترهل إدارى نتج معه خلق وظائف ومستويات إدارية دون مبررات موضوعية بما يزيد من تعقيد الإجراءات الحكومية، وبالتالي خلق مناخ ملائم لجرائم الفساد.
وكان لتدني المرتبات والأجور في الجهاز الإداري للدولة العامل الأكبر في تفشي الفساد بمختلف أنواعه مثل الرشوة والتربح والاستيلاء على المال العام. ويدعم أسباب الفساد في هذا السياق عدم ربط الأجور المتغيرة بالأداء الفعلى؛ حيث تمنح الكثير من الجهات جميع العاملين أجوراً متغيرة متساوية بغض النظر عن الأداء.
ثانياً: أسباب اقتصادية
تشير بعض المقاييس المستخدمة في قياس درجة الفقر إلى ارتفاع مستوى الفقر في مصر، ما يشير إلى عدم المساواة مع استمرار التدهور بفعل تراجع معدل النمو وارتفاع مستوى البطالة. وقد نتج عن غياب العدالة الاجتماعية وعدم عدالة توزيع الدخول والثروات إلى انخفاض مستوى الدخول وتفاوتها وتركز الثروة في أيدى فئة تجيد أكثر من غيرها استغلال الأنشطة التي لا تتسم بالشفافية. ونتيجة عدم قدرة شريحة كبيرة من المواطنين على تلبية حاجاتها الأساسية من السلع والخدمات، لجأ البعض منهم إلى اتباع الممارسات الفاسدة كوسيلة لاشباع احتياجاتهم.
ومن أهم أسباب انخفاض مستويات الدخول في مصر تدني المرتبات والأجور في الجهاز الإداري في الدولة – على الرغم من الزيادات والعلاوات الاستثنائية – وارتفاع الأسعار، ما ينتج عنه انخفاض القيمة الشرائية للنقود. كما أدت الممارسات الاحتكارية للسلع والخدمات إلى ارتفاع الأسعار دون مبرر حقيقى، بالإضافة إلى ذلك، نمو ثقافة الاستهلاك في المجتمع بما لا يتناسب مع مستويات الدخول.
يتسم الإنفاق الحكومي في مصر بالمبالغات غير المقبولة في دولة تمر بأزمات اقتصادية صعبة. ويؤدي عدم ترشيد الإنفاق الحكومي إلى توجيه موارد الدولة توجيهاً خاطئاً مما ينتج عنه آثار سلبية مثل عدم توجيه الموارد بالحجم الملائم لمشاريع تعود بالنفع العام على المواطن في مقابل الإسراف غير المبرر على منافع للمسئولين مثل شراء السيارات والتجهيزات المكتبية الفاخرة.
وهناك مشكلة كبرى في الصناديق الخاصة، وهي مجموعة من الرسوم المالية التي يدفعها المواطن لحساب صناديق تتبع عدة جهات وتكون خارج الموازنة العامة للدولة ولا يتم عرض تفاصيلها على مجلس النواب. تمتد سلطة إنشاء هذه الصناديق إلى المحافظين ورؤساء المراكز والقرى مما يؤدى التوسع في إنشائها إلى صعوبة حصرها ويجعلها عرضة لجرائم الفساد.
ثالثاً – أسباب قانونية
ينشط الفساد في ظل عدم وجود تشريعات ملائمة لحماية الشهود والخبراء والمجني عليهم والمبلغين. كما أن طول الإجراءات القانونية والقضائية يضعف من قوة الردع القانونية تجاه المفسدين ويزيد من فرص هروب المتهمين إلى الخارج قبل محاكمتهم أو ضياع الأدلة أو تدميرها أو التأثير على الشهود. كل ذلك يرسخ شعوراً عاماً بعدم جدية الإجراءات القانونية لمكافحة الفساد، وما يترتب على ذلك من تأخر استعادة الحقوق المسلوبة واسترداد الأموال محل الجريمة.
ويؤدى التراخي في تنفيذ الأحكام الصادرة في جرائم الفساد وضعف العقوبات المقررة إلى عدم تحقيق الردع المطلوب، ما يؤدى إلى زيادة معدل جرائم الفساد نظراً إلى ضعف العقوبات. كما أن تعدد القوانين واللوائح المنظمة لعمل الجهات الحكومية وتداخلها يؤدى إلى ثغرات عند التطبيق مما يحفز ممارسات الفساد.
رابعاً: عدم توافر الشفافية الكافية
إن توافر البيانات والمعلومات الدقيقة والحديثة هو ركن أساسي لدعم جهود مكافحة الفساد والحد منه. ولا بد من إتاحة هذه البيانات والمعلومات بحرية إلا إذا كانت سرية أو محظورة التداول لأسباب ترجع إلى الأمن القومى. وهنا تجدر الإشارة إلى أنه على الرغم من أن مصر قد صدقت على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد في عام 2005، والأخذ بالاعتبار المادة 68 من دستور 2014، إلا أنه توجد صعوبات في مجال إتاحة المعلومات المتعلقة بالشأن العام للمواطنين وهي بساطة اجراءات اتاحة المعلومات، وانخفاض التكلفة المادية للاطلاع على المعلومات، وإتاحتها في زمن معقول.
خامساً: فعالية أجهزة بمكافحة الفساد
تتعدد في مصر الأجهزة المعنية بمكافحة الفساد ويحيط بها كثير من المعوقات تؤثر على فعالية جهود المكافحة. ومن أبرز العقبات وجود بعض القيود الإجرائية بشأن شاغلي الوظائف العليا بالجهاز الاداري للدولة. كذلك استغلال الجهة الادارية لسطتها التقديرية بما قد يخالف ما انتهى اليه رأي الجهة الرقابية وبما يجهض جهود أجهزة مكافحة الفساد.
كما أن الأجهزة الرقابية تفتقر إلى الحصانات الكافية والموارد المادية والبشرية والاستقلالية المناسبة؛ حيث إن بعضها يتبع للسلطة التنفيذية. وحينما يتم حفظ البلاغات في بعض قضايا الفساد، لا يتم الإفصاح عن أسباب الحفظ من قبل جهات التحقيق، مما يعطى الانطباع أن شيئاً ما يدور في الخفاء للتستر على الفاسدين.
كما أشرت آنفاً، على الرغم من تعدد أجهزة مكافحة الفساد، إلا أنها تعانى محدودية آليات التنسيق بينها، وعدم الاستعانة بتطبيقات ونظم تكنولوجية حديثة تسهل التشاور وتبادل المعلومات الخاصة بالتحريات والتحقيقات.
وفي سياق آخر لتعدد جهات مكافحة الفساد، يلاحظ أن غالبية المواطنين في مصر ليس لديهم الوعي الكافى عن تلك الجهات ودورها وكيفية الوصول إليها، وخصوصاً في ظل عدم تعريف الأجهزة الرقابية بنفسها وبأدوارها للمواطن.
ومن ناحية أخرى، كان كثير من المواطنين يلجأ إلى إعداد عشرات من الشكاوى ويقوم بإرسالها إلى جميع الجهات المختصة وغير المختصة ابتداء من رئاسة الجمهورية وحتى رئاسة الحي الذي يقطن فيه، وهو الأمر الذي أدى إلى تكدس الشكاوى أمام جميع الجهات الرقابية مما أفقد آلية الشكوى والدور المهم الذي يمكن أن تلعبه في مكافحة الفساد.
سادساً: أسباب اجتماعية
يعد انتشار قيم الشفافية والنزاهة والأمانة في المجتمعات من أهم وسائل الحماية ضد تفشي الفساد بها، إلا أن المجتمع المصري خلال السنوات الأخيرة أصبح يعاني مظاهر اجتماعية عدة أثرت على هذه القيم بشكل سلبى.
ويظهر التراجع في القيم والعادات السلوكية جلياً من خلال انتشار سمات سلوكية سلبية كانت نتاج العديد من الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المتعاقبة. وجسدت السينما المصرية أسوأ السمات السيئة في المجتمع، ما أثر في نفوس المواطنين، وخاصة الشباب، وزين لهم أنماطاً سلوكية وتطلعات نحو الثراء لا تتحقق في الأحوال العادية بينما يحققها اللجوء إلى الممارسات الفاسدة والكسب غير المشروع.
ومن المؤسف أن المواطن المصري أصبح لديه قناعة راسخة بعدم قدرته على قضاء مصالحه دون اللجوء إلى الواسطة. نتيجة ذلك أدت الأسباب السابق الإشارة اليها إلى ظهور ثقافة جديدة وهي التسامح مع الفساد وإظهاره على أنه وسيلة مقبولة اجتماعياً للحصول على الحقوق.
ختاماً، يبقى أن أشير إلى أن المواطن، أيضاً، يتحمل المسئولية بامتناعه عن الإبلاغ عن وقائع الفساد خشية التعرض لردود فعل انتقامية. كما أن مؤسسات المجتمع المدني مسئولة عن ضعف مشاركتها في التعريف والتوعية بمشكلة الفساد وضعف ممارستها للمساءلة والمحاسبة في مجال مكافحة الفساد.