بقلم: محمد العريان، مستشار اقتصادي لمجموعة أليانز، ورئيس كلية “كوينز”بجامعة كامبريدج.
يتزايد الضغط من جميع الجوانب على مجلس الاحتياطي الفيدرالي، لخفض أسعار الفائدة بدءا من الاقتصاديين وبعض القلقين بشأن انزلاق الولايات المتحدة في ركود.
ويضاف إليهم، المشاركين في السوق الطامعين في مزيد من السيولة لدعم أسعار الأصول، وأيضا من حكومة ترامب الذين يشتكون من أن “الفيدرالي” أعاق بحدة النمو الاقتصادي وسوق الأسهم.
وبالنظر إلى تصريحات المسئولين في الفيدرالي الأسبوع الماضي، فلم يعد السؤال إذا كان الفيدرالي سيخفض الفائدة أم لا؟ وإنما : “متى؟ ” و”كم قدر الخفض؟”
لكن هناك سؤال أعمق مكون من جزئين لم تتم الإجابة عليه، وهو هل سيؤدي خفض الفائدة إلى استهلاك واستثمار أعلى بكثير ومستدام؟
وإذا لم يفعل.. إلى متى يمكن للأسواق ان تحافظ على أسعار الأصول المرتفعة التي انفصلت عن أسس الاقتصاد والشركات؟
منذ 6 أشهر مضت، بدأ “الاحتياطي الفيدرالي” بثقة، مسار تطبيع السياسة النقدية والذي يتسم برفع متلاحق لأسعار الفائدة بمقدار 25 نقطة أساس، بجانب برنامج “تلقائي” لتقليص الميزانية المتضخمة بسبب المشتريات الاستثنائية للأصول.
وبحلول مارس من العام الحالي، حل محل هذا الموقف إشارات من “الفيدرالي” بأنه لن يكون هناك أي رفع للفائدة لعام 2019.. أما الأسبوع الماضي فقد أكد مسئول تلو الآخر في “الفيدرالي” أن الباب الآن مفتوح لخفض الفائدة.
ورحبت الأسواق بهذه الإشارة من الفيدرالي، وارتفعت الأسهم يوم الثلاثاء الماضي استجابة لتصريحات رئيس الفيدرالي ونائبه، وظل أداء عائدات السندات جيدا، وهي ردة فعل مفهومة.
ومنذ الأزمة المالية العالمية، والركود الذي تلاها، وطن المستثمرون أنفسهم على طلب وتوقع دعم السيولة من البنك المركزي لتعزيز أسعار الأصول وإحباط التقلبات المالية، ويبدو أنه في كل مرة يتبنى فيها “الفيدرالي” نهجا أكثر طمأنة، تطلب الأسواق أكثر، ونتيجة لذلك، تشير المؤشرات المالية الحالية إلى احتمالية كبيرة لخفض الفائدة مرتين أو ثلاثة العام الحالي وحده.
وقفز عدد من استراتيجيي “وول ستريت” على موضة خفض الفائدة، وينضم إليهم الاقتصاديون. ودعا الأستاذ بجامعة هارفارد ووزير الخزانة السابق، لاري سامرز، في مقال شديد اللهجة الأسبوع الماضي، إلى أن “يخفض الفيدرالي الفائدة بمقدار 50 نقطة أساس خلال الصيف، وأكثر إذا تطلب الأمر في الخريف”.
وترتكز حجة سامرز، في أن يؤمن “الفيدرالي” نفسه من ركود او تباطؤ من خلال خفض الفائدة بحدة في الشهور القليلة المقبلة على ما يراه تهديدا كبيرا ومتزايدا لانزلاق الاقتصاد الأمريكي في ركود في 2020.
يأتي كل ذلك في سياق ضغوط سياسية متزايدة على “الفيدرالي”، نظرا لضغوط الرئيس دونالد ترامب والمسئولين في حكومته على المجلس لخفض الفائدة في البداية بمقدار 50 نقطة أساس، ومؤخرا يطالبون بـ 100 نقطة أساس.
وﻷسباب ذكرتها سابقا، لا أتوقع أن يقاوم مجلس الاحتياطي الضغوط المتزايدة عليه لتخفيف السياسة المالية أكثر، وبينما لم تضعف البيانات الاقتصادية بقدر كبير، لدى البنك المركزي بعض الغطاء الاقتصادي لدعم الطلب على أساس المخاطر التي يتعرض لها النمو من تصاعد التوترات التجارية.
ويبقى التساؤل: متى وبأي قدر سيخفض الفيدرالي الفائدة العام الحالي؟
ولكن هذا قد لا يكون وجه عدم اليقين الوحيد الذي يواجهه الاقتصاد والأسواق في أمريكا، فهناك قضية أهم تتعلق بفاعلية السياسة.
ونظرا لأن الفيدرالي، تنقصه القدرة والسلطة لمعالجة التحديات الهيكلية التي تعوق النمو بشكل مباشر، اضطر إلى الاعتماد على القناة المالية لتعزيز الاستهلاك والاستثمار والنمو الاقتصادي، ومع ذلك، فقد كان نجاح الفيدرالي في ذلك متقطعا وجزئيا، وعلاوة على ذلك، لا تبعث نماذج البنوك المركزية الأخرى التي تبنت سياسات أكثر عنفا – مثل أسعار الفائدة الرسمية السلبية من قبل المركزيين الأوروبي والياباني – على الطمأنينة.
وتتمثل الحقائق المرة بالنسبة للفيدرالي (والاقتصاد وأخيرا الأسواق) في أنه لا يوجد الكثير يمكن للفيدرالي القيام به بشكل مباشر لتعزيز الإنتاجية وامكانات النمو عبر تحسين الاحتفاظ بالقوة العاملة وإعادة توظيفهم، وتسريع وتيرة اكتساب المهارات وتحديث البنية التحتية المادية والتكنولوجية وتحسين التعليم.
ولا يوجد الكثير يمكن للفيدرالي فعله لإزالة الغموض الناتج عن التوترات التجارية التي تؤثر على المفاوضات الحالية والمستقبلية (ليس فقط بين أمريكا والصين وإنما أيضا أوروبا وأمريكا)، وأيضا ما اعتبره الكثيرون صفققات منتهية (خاص بين المكسيك وأمريكا).
ولا يوجد ما يمكن للفيدرالي عمله لمواجهة المخاطر المتزايدة للأوضاع السياسية المضطربة التي تلوث الأحوال الاقتصادية العالمية خصوصا في أوروبا، كما لا يوجد الكثير الذي يبدو أن “الفيدرالي” مستعدا لتقديمه لتخفيف مخاطر الحوادث السوقية المستقبلية بعد هجرة المخاطر إلى ما وراء القطاع المصرفي وبعد الوعود بسيولة عالية للأفراد.
وينبغي أن يكون الأداء القوي للاقتصاد الأمريكي تذكير لحساسيته للتدابير الداعمة للنمو التي تقع خارج سلطة الفيدرالي (مثل تخفيف التنظيمات وإصلاح الضرائب)، وفي نفس الوقت، توضح تجارب البنوك المركزية في أوروبا واليابان أن فاعلية السياسة النقدية تعتمد أكثر وأكثر على قيام صناع السياسة الاقتصاديين الآخرين بمسئولياتهم لتعزيز الإنتاجية وإزالة العوائق أمام النمو (والساسة ينبغي أن يمكنوهم من ذلك).
وللأسف، لن يقلل أيا من ذلك، الضغوط المتزايدة على “الفيدرالي” لكي يقوم بالمزيد بنفسه، ولكن بالنظر إلى أن المجلس وحده لا يستطيع معالجة التحديات الاقتصادية والمالية والمؤسسية والسياسية الهامة ومتعددة الأبعاد، فإن ذلك لن يغير على الأرجح، المخاطر المتراكمة على المدى البعيد للازدهار الاقتصادي والاستقرار المالي.
إعداد: رحمة عبدالعزيز.
المصدر: وكالة أنباء “بلومبرج”.