خلال فترة «القفزة الكبرى للأمام» فى الصين بقيادة «ماو زيدونج»، تم تجريب صناعة الصلب بشكل بدائى.. لكن فشلت التجربة فشلاً ذريعاً.
وخلالها تم تشجيع الفلاحين على إنشاء أفران للصلب فى أفنيتهم الخلفية. وكما هو متوقع لم يكن لدى معظم الناس فكرة عن كيفية بناء مصنع صلب مصغر بل ومعرفة أقل بكثير عن الصلب، ولم يكن هناك أى سوق يشترى إنتاجهم، وكانت النتيجة كارثة اقتصادية.
ولكن لا حاجة لتذكر «ماو»، لكى نرى أن معظم الإنتاج يكون متركزاً فى القرى الصناعية التى تكون مرتبطة ببعضها البعض من خلال الطرق والسكك الحديدية، وتعد البنية التحتية أساسية لتحقيق التنمية، فالمصانع تحتاج جلب المواد الخام والأجزاء وشحن البضائع النهائية، وتحتاج العمالة إلى الانتقال من المنزل إلى العمل بسهولة، وأيضاً تعد الطاقة والصرف الصحى والإنترنت والبنية التحتية مهمتين للمكاتب والمصانع.
وتعد وسائل النقل الجيدة مهمة لأسباب أكثر دقة، مثل إمكانية انتقال رجال المبيعات والتسويق بسهولة، والشعور بالطلب فى المناطق القريبة، وحتى يتمكن المهندسون والعاملون الآخرون ذوو المعرفة، من التقابل وتبادل الأفكار. وهذا على الأغلب هو سبب امتلاك الدول الغنية حكومات مركزية فاعلة وعازمة على بناء شبكات البنية التحتية.
وأى قائمة من الدول ذات أفضل الطرق والأنفاق والموانئ والشبكات الكهربائية، تهيمن عليها الدول الغنية مثل سويسرا واليابان وفرنسا وأمريكا، وهذا على الأغلب هو سبب نمو الحركة الصناعية فى الصين سريعاً؛ نظراً إلى أنها كانت تضخ حصة كبيرة من ناتجها الاقتصادى فى بناء البنية التحتية.
ولكن هذا لا يعنى أن الدول التى لا تمتلك حكومات كفأ مركزية فى مشكلة، ويظهر ذلك بشكل خاص فى أفريقيا؛ حيث الاستقرار السياسى كان بعيد المنال حتى وقت قريب، ولكن حتى الدول ذات الأنظمة المستقرة المركزية تكافح لبناء أنظمة طرق ونقل بنفس المستوى العالمى، وإذا نظرنا إلى الهند، سنجد أن بنيتها التحتية المتدنية كانت طوال الوقت عائقاً أمامها لتحقيق هيمنة صناعية مثل تلك التى فى الصين.
ورغم أن الهند تحسنت قليلاً، مؤخراً، وارتفع إنفاقها على الطرق، وتحسنت جودتها، فإن تكاليف شراء الأراضى لا تزال عائقاً أساسياً، وكذلك الفساد.
وستكون مشكلة البنية التحتية أقل حدة إذا فكرت الدول الفقيرة فى أفريقيا وجنوب آسيا فى طريقة لتحسين الحوكمة والإنفاق بفاعلية وخفض التكاليف.
ولكن فى الوقت الحالى، هناك قوى أخرى تظهر يمكن أن تجعل الأمور أسهل للموجة القادمة من الدول النامية وهى التكنولوجيا.
وهناك عدد من الاكتشافات الحديثة جعلت أنظمة الإنتاج المقسمة والمعزولة جغرافياً ممكنة الحدوث.
وأولى هذه التكنولوجيات، بلا عجب، هى الهواتف المحمولة، وتغير الهواتف المحمولة أفريقيا سريعاً من خلال السماح بإرسال المعلومات لمسافات بعيدة دون شبكة طرق أو خطوط أرضية، وبالفعل أصبح معدل اختراق الموبايل مرتفعاً للغاية.
وتغير القطاع الزراعى كذلك بفضل الهواتف المحمولة التى تسمح للمزارعين بالتجارة ومعرفة الأسعار والحصول على توقعات الأرصاد وشراء التأمين وغيرها من الخدمات المالية الضرورية، وكل ذلك بدون مغادرة حقولهم، وكذلك يقود التمويل تحولاً فى أفريقيا، والتى تعد الرائد العالمى الآن فى الصيرفة على الهواتف، وأطلق تقرير لشركة «ماكينزى» فى 2018 على قطاع التكنولوجيا المالية فى أفريقيا «مرتع الابتكار».
وأشار تقرير لمعهد «بروكينجز»، أن خدمات تكنولوجيا المعلومات يمكن أن تخدم كمصدر كبير للتوطيف لشباب القارة.
أما الابتكار التكنولوجى الأساسى الثانى فهو الطاقة الشمسية.
ورغم أن الطاقة الشمسية تكون أرخص عندما تتم على نطاق واسع، فهذا لا يعنى أنه لا يمكن استغلالها على نطاق أضيق مثل لوحات الطاقة الشمسية على أسطح المنازل التى تسمح للعديد من المبانى بعدم الاعتماد على الشبكة، وفى الدول التى لا توجد فيها شبكة كهربائية أو شبكتها متقطعة أو لا يعتمد عليها، يمكن أن تحدث ألواح الطاقة الشمسية فوق الأسطح تحولاً مثل الذى حققه الفحم فى بداية حركة التصنيع.
وبالإضافة إلى السماح للمصانع بالعمل دون شبكات مركزية أو مولدات باهظة الثمن، يمكن أن تكون الطاقة الشمسية مصدراً مهماً للوظائف. وبالفعل تظهر بعض التقديرات ان الوظائف فى قطاع الطاقة البديلة فى منطقة أفريقيا جنوب الصحراء تعادل الوظائف فى قطاع الطاقة التقليدى، وسوف يكتمل هذا الاتجاه بالتحسن فى تكنولوجيا البطاريات التى تسهل نقل وتخزين الطاقة الكهربائية.
أما التكنولوجيا الثالثة والتى يمكن أن تساعد هى الطباعة ثلاثية الأبعاد، ففى الدول الغنية، من الأرخص دائماً طلب الأجزاء بدلاً من صناعتها بنفسك، وتستخدم الطباعة ثلاثية الأبعاد فى الغالب فى التطبيقات المتخصصة مثل النماذج الأولية السريعة، ولكن فى المناطق التى يكون فيها النقل عبر الطرق بطيئاً وغير موثوق، وحيث لا يوجد فى الأصل موردون إقليميون، فقد تجد المصانع أنه من الأنسب لها أن تطبع المكونات المطلوبة طباعة ثلاثية.
بمعنى آخر، قد تغير الثورة فى التكنولوجيا طريقة عمل شبكات الإنتاج، وهذا لا يعنى أن البنية التحتية لن تكون مهمة بعد الآن، ولكن سيتقلص الحد الأدنى المطلوب من البنية التحتية لبدء عملية التنمية فى بلد أو منطقة فقيرة، وقد تتضمن الموجة القادمة من التصنيع المزيد من المصانع والمكاتب فى أفريقيا وجنوب آسيا مدعومة بقطاع خدمات تكنولوجيا معلوماتية مزدهر.
بقلم: نواه سميث، كاتب مقالات رأى لدى «بلومبرج»، وكان أستاذاً مساعداً فى التمويل فى جامعة ستونى بروك.
إعداد: رحمة عبدالعزيز.
المصدر: وكالة أنباء «بلومبرج».