اعتادت منذ سنوات على أن يكون أول شيء أفعله فى بداية كل يوم هو أن أتطلع أثناء تحضير القهوة وتناولها على آخر الأخبار المحلية والإقليمية والدولية من خلال إحدى وسائل الإعلام التى أثق بها وفى مصداقيتها ومهنيتها وحياديتها (وغالباً ما تكون قناة “بى بى سى عربية”) قبل أن أستكمل الصباح بقراءة الصحافة الاقتصادية المتخصصة. وبقدر ما يفيد ذلك فى إبقائى مدركاً لما يحدث حولى ومتابعاً له ويزيد بالتالى من قدرتى على فهم وتحليل الواقع المحيط بى، إلا أنه قد يكون ضاراً بالصحة النفسية للمرء عندما يستيقظ على صور دماء حرب أهلية دائرة فى مكان ما أو يرى آثار تفجير إرهابى فى مكان آخر أو حتى يسمع عن دولة أوشكت على إعلان إفلاسها بسبب كثرة ما يثقل كاهلها من ديون.
هذا تحديداً ما حدث لى صباح اليوم الأحد الموافق 15 سبتمبر 2019 عندما وجدت خبر الهجوم على منشأتى النفط السعوديتين التابعتين لشركة “أرامكو” العملاقة شبه الحكومية يتصدر كافة النشرات الإخبارية المقروءة والمسموعة والمرئية وامتلاء صندوق الوارد لتليفونى المحمول برسائل من مختلف الوسائل الإعلامية عن نفس الموضوع. فعندما يتم ضرب منشآت تخص الشركة الرئيسية فى مجال النفط والتى تحتكر أنشطته تقريباً بأكبر دولة مُصدرة له على مستوى العالم ويُعلن الوزير المختص بها عن تعطل حوالى خمسون بالمائة من إنتاجها، يختلف الأمر عن ىنهيار البورصات الدولية مثلاً أو انخفاض مفاجئ لأسعار الذهب رغم جسامة وحساسية هذا الأمر أو ذاك لأن ما يحدث بأسواق النفط من شأنه أن يمس حياتنا اليومية بشكل مباشر وفورى وينعكس على ممارستنا لكافة الأنشطة بها، خاصة بعدما توجهت معظم الدول بكافة أرجاء المعمورة بما فيها مصر إلى تطبيق أسس السوق الحرة التى يتحدد بداخلها كل شيء وفقاً لمبدأ العرض والطلب ويخضع بالتالى أيضاً لمجموعة من الظروف الجيوسياسية التى تتعدى بكثير مجرد حسابات وفرة المعروض أو نقصه.
لم نكن نحن فى بلاد النيل فى الماضى معتادين على ذلك نظراً لما كانت تتمتع به الأسواق المصرية من حماية منذ الاستقلال عن التاج البريطانى عام 1952 عبر نظم دعم مختلفة كان أبرزها الدعم السلعى المباشر الذى تستهدف الحكومة الحالية ليس فقط تقليصه ولكن إلغاؤه كلياً على المدى المتوسط وخطت بالفعل خطوات واسعة نحو بلوغ تلك الغاية بالنسبة لسلع عدة، جاءت فى مقدمتها كافة المنتجات البترولية والتى تم تقريباً رفع الدعم عنها كاملاً (باستثناء أنابيب البوتاجاز بسبب تأخر تنفيذ خطة توصيل الغاز الطبيعى للمنازل، خاصة فى المناطق التى تقع خارج التجمعات الحضرية الكبرى) وصار اليوم يعكس بالتبعية سعر النفط العالمى. وأعلنت الحكومة أيضاً عن نظام التسعير التلقائى وبدء أعمال اللجنة التى شكلها مجلس الوزراء خصيصاً لمتابعة هذا الأمر والمُفترض أنه بدأ العمل فعلياً بهذا النظام فى شهر يوليو الماضى.
وبناءً على ما سبق سيكون لما حدث صباح اليوم عواقب وخيمة على مستويات مختلفة. وهى وإن كان يصُعب التنبؤ الدقيق بها، إلا أننى سأحاول فى هذا المقال والمقالات الثلاثة التالية عليه التعرض أولاً للتحليل الاقتصادى السياسى لهذا الحدث الجلل ثم تأثيره المُحتمل على الأسواق العالمية على المديين القصير والمتوسط (مع الاعتراف باستحالة إبداء أية توقعات لما هو أبعد من ذلك) ثم أخيراً محاولة بلورة رؤية لكيفية انعكاس هذا الأمر على مصر وأسواقها.
ستصعد أسعار البترول العالمية بكل تأكيد فى ظرف الفترة القادمة، خاصة بعد إعلان وزارة البترول السعودية عن أنها ستحتاج إلى عدة أسابيع للعودة بالمنشأتين إلى كامل طاقتهما الإنتاجية دون أن تحدد إطاراً زمنياً دقيقاً. ولا أستبعد فى هذا السياق صعود خام برنت القياسى إلى ما يزيد على سبعين دولاراً للبرميل وربما يجرب مستوى ثمانين دولاراً وقد يكسر خام غرب تكساس الوسيط حاجز 65 دولاراً للبرميل ولكن استدامة هذا التوجه تظل محل شك بالطبع لأن بقاء الأسواق حول هذه المستويات السعرية لفترة طويلة قد يكون ضاراً بالجميع بما فى ذلك كبار المُصدرين من الخليج العربى إلى فنزويلا لأنه ربما يكون من شأنه تقليص الطلب بدرجة لا يعوضها ارتفاع الأسعار وبالتالى سيتطلب الأمر تدخلاً سياسياً على أعلى مستوى وهو ما سأتعرض له فى المقال القادم تفصيلاً بما فى ذلك التلميح الخطير للغاية الذى صدر عن الولايات المتحدة بأنها مستعدة للتدخل باحتياطى البترول لمواجهة أى نقص محتمل فى المعروض العالمى.
بقلم: محمد شيرين الهوارى
الخبير فى الاقتصاد السياسى