بعدما أكد رئيس الفيدرالي، جيروم باول، الأسبوع الماضي ، على أن خطط البنك لشراء أذون خزانة ليست بأي حال من الأحوال تيسيرا كميا، وحذا عدد من زملائه حذوه، بدأ الاقتصاديون والمشاركون في السوق الجدل بشأن ماذا يعني التيسير الكمي؟
وهذا أمر من الصعب حله تحليليا.. ومع ذلك، فإن النقاش قد يعطينا أفكارا بشأن ما يفكر فيه “الفيدرالي”.
ومتحدثا في 8 أكتوبر الحالي، خلال الاجتماع السنوي الـ61 للرابطة الوطنية لاقتصاديات الأعمال، قال باول إن سياسة الفيدرالي لشراء 60 مليار دولار من أذون الخزانة شهريا خلال النصف الثاني من 2020 “لا يجب بأي حال من الأحوال الخلط بينها وبين برامج شراء الأصول واسعة النطاق التي تم تطبيقها بعد الأزمة المالية العالمية” أو التي يطلق عليها التيسير الكمي. وبدلا من ذلك، تركز مشتريات “الفيدرالي”، على تهدئة سوق التمويل الإجمالي الذي يشار إليه عادة بسوق الريبو.
ودعم البعض في القطاع الخاص فورا توصيف باول للسياسة الجديدة. فبعد كل شيء، كان التيسير الكمي مسئولا عن التشوهات الكبيرة وغير المعتادة في سوق الريبو وليس الضعف المفاجيء والكبير في الأحوال الاقتصادية.
وتركز السياسة الجديدة على الأوراق المالية قصيرة الأجل وليس الآجال الأطول التي هيمنت على عمليات التيسير الكمي.
وبالتالي، فإنها كما أشار باول في خطابه، ليست تدبيرا سياسيا نقديا في حد ذاته، بل خطوة “فنية” تستهدف حل مشكلة معينة في النظام المالي المتعثر.
ولكن قال آخرون، الأمر ليس بهذه البساطة، فبداية عمليات الميزانية الاستثنائية منذ أكثر من 10 سنوات والتي كانت تعرف بالتيسير الكمي 1 كانت تستهدف تطبيع الاختلالات في الأسواق المالية، ولم يتحول الفيدرالي إلى استخدام الأدوات غير الاستثنائية للسعي وراء أهداف اقتصادية كلية أوسع سوى من خلال سياسة التيسير الكمي 2.
وهناك أيضا عمليات التيسير الكمي 2.5 والمعروفة أيضا بالتحول التشغيلي الذي سعى للتأثير على منحنى العائد وهو أيضا ما سيفعله التدبير الجديد ولكن في الاتجاه المعاكس.
ويسعى الفيدرالي لخفض أسعار الفائدة على الأذون مقارنة بالسندات، وهو أمر مفهوم بالنظر إلى كل المخاوف في الشهور الماضية من منحنى العاد المقلوب الذي يغذي توقعات الركود.
وما يدعم وجهة نظرهم أيضا، أنه بغض النظر عن مدى فنية هذا التدبير فإنه قد يولد محاولات غير مباشرة للتأثير على تحمل المخاطر في السوق وهو ما له أثار مرتدة على الاقتصاد الأوسع، وقد تتجه وزارة المالية التي ستستغل الطلب الجديد على الأذون من قبل الفيدرالي ، إلى إصدار مزيد من الديون من خلال الأذون، وهو ما سيقلص المعروض من السندات الأطول أجلا.. وبالتالي يزيد أسعارها وينخفض عائدها، مثلما فعلت لاحقا برامج التيسير الكمي 2 و3.
وباختصار، قد لا تكون هذه الخطوة برنامج تيسير كمي كامل ولكن يمكن التفكير فيها على أنها بديل خفيف أو مأخوذ أو مصغر أو مشابه قليلا منه، حسبما تود أن تطلق عليه.
إذن، من هو المحق؟ وهل للأمر أهمية؟
كلا الجانبين لديهما نقاط في صالحهما، مما يجعل من الصعب إعلان من الفائز.
ومع ذلك، سيصر المسئولون في “الفيدرالي” على أن التدبير الجديد “ليس به شيئ من التيسير الكمي” وفقا لكلمات باول.
ومن النظرة الأولى ، قد يبدو الأمر محيرا أن ينكر المسئولون في الفيدرالي، على غير عادتهم أي ارتباط للخطوة الجديدة ببرامج التيسير الكمي، فبعد كل شيء، لماذا ينفون تأثيرا إيجابيا محتملا على الاقتصاد عندما يكون أكثر عرضة للضعف من عوامل خارجية؟ ولكن هناك سببان لذلك.
الأول، هناك اعتراف متزايد بمخاطر السياسة النقدية غير التقليدية والتي لم تصبح غير فعالة فحسب وإنما مضرة مثلما هو الحال مع البنك المركزي الأوروبي والياباني، وهي مخاطر فصلتها في كتابي “اللاعب الوحيد في المدينة”وحذرت من انها ستقع حال ظلت البنوك المركزية اللاعب الوحيد في المدينة لفترة طويلة.
ومن بين هذه المخاطر: التشجيع على التحمل المفرط للمخاطر الذي قد يضر الاستقرار المالي في المستقبل ويقوض السلامة الاقتصادية ويروج للتخصيص غير الكفء للموارد بما في ذلك دعم النشاطات التي لا تضيف قيمة ما يأكل مرونة ورشاقة الاقتصاد، وتشجع كذلك على السلوكيات المتعارضة مثل المدخرات الاعلى لمواجهة الدخل المنخفض من الفائدة، ما يفاقم عدم المساواة في الثروة والفرص التي وهو ما يقلص مصداقة السياسات التي هي هامة لفاعلية التوجيهات الإرشادية للبنوك المركزية.
والثاني، قد لا يرغب “الفيدرالي” في الإشارة إلى أنه استسلم للضغوط السياسة التي وقعت عليه من قبل البيت الأبيض بعد رفضه للعودة إلى التيسير الكمي، وعلاوة على ذلك، القليل من الاقتصاديين يتسائلون عن سبب مواصلة الفيدرالي الإشارة إلى عزمه لخفض أسعار الفائدة في وقت تعد فيه البطالة عند مستويات منخفضة قياسيا وأيضا المؤشرات الاقتصادية الأخرى قوية نسبيا.
وكل هذه الاعتبارات المتعارضة تشير إلى مشكلة أكبر، تشكل أزمة خاصة للأشخاص مثلي الذين يعتقدون أن البنوك المركزية جيدة الأداء والفعالة هي شرط أساسي لصحة الاقتصاد، وتعد البنوك المركزية معرضة بشكل متزايد للوقوع في مواقف تكون فيها خاسرة في كل الأحوال، ولا يوجد بيديهم الكثير لفعله سوى الأمل في أن السلطات الأخرى التي لديها أدوات سياسية مناسبة أكثر ستتدخل وتقوم بما عليها.
بقلم: محمد العريان، مستشار اقتصادي لمجموعة أليانز، ورئيس كلية كوينز بجامعة كامبرديج.
إعداد: رحمة عبدالعزيز.
المصدر: وكالة أنباء “بلومبرج”