تعد التوترات الجيوسياسية، أمراً مألوفاً فى الشرق الأوسط، ولكنها تصاعدت بشكل ملحوظ منذ تولى الرئيس الأمريكى دونالد ترامب منصبه بداية عام 2017، فقد عزز علاقاته مع الحلفاء قدماء العهد فى المنطقة، ومنها السعودية والإمارات، فى حين تبنى موقف متشدد تجاه إيران.
خلال العام الماضى، مضى ترامب قدماً فى تعهداته بسحب بلاده من الاتفاق النووى الذى أبرم بين القوى العالمية والجمهورية الإسلامية عام 2016، وأعاد فرض العقوبات، مما أدى لمشاكل اقتصادية حادة فى إيران.
فقد انهار إنتاج البترول من 3.8 مليون برميل يوميا في يونيو 2018، إلى 2.2 مليون برميل يومياً فى الوقت الراهن، ويتوقع انخفاضه أكثر خلال الأشهر المقبلة.
وضعفت قيمة الريال الإيرانى بنسبة 60% تقريباً مقابل الدولار فى السوق السوداء خلال الـ 18 شهراً الماضية، فضلاً عن النقص واسع النطاق فى البضائع الذى تسبب بدوره فى ارتفاع التضخم.
وأصبح اقتصاد إيران فى خضم ركود عميق، إذ قدر صندوق النقد الدولى انكماش الناتج المحلى الإجمالي للبلاد بنسبة 3.9% العام الماضى وإمكانية تقلصه بنسبة 6.0% أخرى هذا العام.
وفى الوقت نفسه، اتهمت إيران وميليشياتها بإذكاء التوترات فى المنطقة، إذ ازدادت عمليات استهداف منشآت سعودية خلال الأشهر الأخيرة، وتوجت بهجوم وقع مؤخراً على منشأة بقيق، أكبر منشأة لمعالجة البترول فى العالم، مما تسبب في تعليق السعودية لأكثر من نصف إنتاجها البترولى بشكل مؤقت.
كما حذرت الإدارة الأمريكية، إيران من محاولاتها المستمرة لزعزعة استقرار المنطقة، فقد كان الجيش الأمريكي على وشك شن غارات جوية على إيران- قبل إيقافها في اللحظات الأخيرة- بعد سقوط طائرة أمريكية دون طيار في يونيو الماضى.
وفى ظل ارتفاع مخاطر نشوب نزاع مباشر بين الولايات المتحدة وإيران، قررت مؤسسة “كابيتال إيكونوميكس” البحثية، التركيز بشكل أكبر على التأثير المحتمل لهذا النزاع على اقتصادات المنطقة وسوق الطاقة وباقى العالم.
التأثير على اقتصادات منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا
أظهرت الصراعات العسكرية السابقة مدى تأثير الحروب على الاقتصاد، إذ تسببت الحرب في سوريا، التي أسفرت عن مقتل نحو 400 ألف شخص، في دمار واسع للبنية التحتية للبلاد، وانهيار الناتج المحلى الإجمالى للبلاد بنحو 60% من ذروته السابقة، كما أسفرت حرب الخليج الأولى عن إراقة دماء أقل بكثير.. لكنها لاتزال تتسبب حتى الآن فى انكماش اقتصاد الكويت بنحو 50%.
وبالنسبة لإيران، التى تمثل 1.2% من الناتج المحلى الإجمالى العالمى، إذا سجل اقتصاد البلاد انخفاضاً مماثلاً، فإن ذلك سيؤدى إلى تراجع النمو العالمي بنسبة 0.6%، وهو السيناريو الأسوأ.
وأشارت “كابيتال إيكونوميكس” إلى أن هناك عدة عوامل تدل على أن التأثير قد يكون أقل حدة، على عكس الكويت قبل حرب الخليج الأولى، إذ انخفض إنتاج البترول الإيراني بالفعل بشكل حاد منذ إعادة فرض العقوبات في العام الماضي. كما أن نوع الصراع المتوقع لن يستمر لفترة طويلة.
وفقا لذلك، ربما يكون انخفاض الناتج المحلى الإجمالي بنحو 25% أكثر منطقية، مما سيؤدى إلى انخفاض الناتج المحلى الإجمالى العالمى بنحو 0.3%، وهو ما يعادل الآثر الناتج عن الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين حتى الآن.
وأوضحت أن ركود اقتصاد إيران قد يثقل كاهل الدول التي تحظى بعلاقات تجارية وثيقة مع إيران، فالإمارات الدولة الأكثر تأثرا بتراجع اقتصاد إيران، تليها عمان وأوكرانيا وتركيا، في حين يعتمد مدى تأثر الدول الأخرى فى المنطقة على ما إذا كانت قد تأثرت بشكل مباشر بالصراع أم لا؟ وقدرتها على تفادى الهجمات الأخرى على البنية التحتية للبترول، رغم أن التجارب السابقة تشير إلى أن تلك الهجمات قد تكون غير مؤذية نسبيا.
فعلى سبيل المثال، خلال حرب الخليج الأولى، سجل عدداً من دول الخليج، بما في ذلك السعودية، معدلات سريعة للنمو الاقتصادى، مما يعكس أمرين، أولهما أن هذه الدول رفعت إنتاجها من البترول لتعويض انقطاع الإمدادات فى الكويت، أما الأمر الثانى فهو أن ارتفاع الإنتاج بجانب زيادة معدلات التبادل التجاري الناتج عن ارتفاع أسعار البترول، ساعدا فى تخفيف السياسة المالية، خصوصا الإنفاق العسكرى، مما عزز النشاط فى القطاعات غير البترولية.
التأثير على سوق البترول
فى الوقت الذى قد يتسبب فيه الصراع بين الولايات المتحدة وإيران، في الإضرار بالاقتصاد الإيراني بشكل بالغ، سيكون هناك أيضاً آثار غير مباشرة على بقية العالم، وستكون الآثار أكثر وضوحا من خلال سوق الطاقة، خصوصا أن دول الخليج وإيران تستحوذ على ما يقرب من ثلث الإنتاج العالمى من البترول وخُمس إنتاج الغاز العالمى تقريباً.
وآثار الهجوم الأخير على منشأة بقيق، مخاوف بشأن الحماية المحيطة بالبنية التحتية للبترول في المنطقة، كما أن المزيد من الهجمات المدمرة على منشآت البترول في إيران ودول الخليج قد تخلق كوارث بيئية، بالإضافة إلى تعرض أسواق الطاقة العالمية لاضطرابات شديدة ومطولة قد لا تُعوض سريعا من خلال استغلال الإمدادات في بقية أنحاء العالم.
ومع ذلك، هناك توقعات بأن إيران تحاول إغلاق مضيق هرمز- رغم تشكيك معظم الخبراء العسكريين في قدرتها على إغلاق المضيق لفترة طويلة- وبالتالي إعاقة نحو 20% من إمدادات البترول العالمية، ومن ثم إمكانية ارتفاع أسعار البترول. ويعتقد خبراء أن سعر خام برنت سيرتفع إلى نحو 150 دولاراً بعد اندلاع الأعمال العدوانية وربما يرتفع إلى مستويات أعلى من ذلك فى المستقبل القريب.
بالإضافة إلى ذلك، إذا تجاوزت أسعار البترول حاجز الـ 150 دولاراً للبرميل، فمن المحتمل أن تكون الحكومات في العالم أكثر ميلا إلى إعطاء الضوء الأخضر لصناعات التكسير الهيدروليكى، كما أنه يحتمل أيضاً اتخاذها تدابير هادفة لرفع كفاءة استهلاك الوقود وتوليد الطاقة المتجددة واستيعاب المركبات الكهربائية.
التأثير على الاقتصاد العالمى
من المتوقع أن يضاف ارتفاع أسعار الطاقة العالمية إلى الرياح المعاكسة التي تواجه الاقتصاد العالمي في الوقت الراهن، ويجب الاعتراف بأن البترول أصبح مدخلا أقل أهمية في الناتج الاقتصادي العالمي مقارنة بما كان الوضع عليه في العقود السابقة.
ومع ذلك، سيظل يشكل الارتفاع الكبير في أسعار البترول، ضغوطا تصاعدية على أسعار المستهلكين، فإذا افترضنا أن اندلاع النزاع تسبب في ارتفاع أسعار البترول إلى 150 مليار دولار، فإن التضخم المتعلق بالبترول سيرتفع إلى نحو 160% قبل أن يتراجع مرة أخرى.
وإذا تحدثنا عن دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية بشكل خاص، فإن ارتفاع أسعار البترول سيدفع التضخم مؤقتا هناك ليصل إلى 3.5% قبل تراجعه إلى نحو 1.5% بحلول منتصف العام.
بالإضافة إلى ذلك، قد يكون لارتفاع أسعار الطاقة العالمية آثار غير مباشرة، إذ يمكن أن ترتفع تكاليف الإنتاج بالنسبة للشركات ليقوم بعضها بتمرير تلك الزيادة إلى المستهلكين، كما يمكن أن تؤثر أيضاً على خدمات النقل.
ويكاد يكون من المؤكد أن البنوك المركزية فى العالم المتقدم ستنظر في أي ارتفاع للتضخم، مدفوع بالطاقة، وستمتنع عن رفع أسعار الفائدة، ففي الواقع، بقدر ما تؤدي صدمة التضخم إلى تآكل الدخول الحقيقية للأسر والحد من الإنفاق الاستهلاكى وتفاقم التباطؤ الاقتصادى الحالى، فإنها قد تؤدى أيضاً إلى تحول أكثر عدوانية نحو تخفيف السياسة.
وفي العالم الناشئ، ستكون الاستجابة لصدمة أسعار البترول أكثر تفاوتا.. فمن المحتمل أن تستجيب الدول المستوردة للبترول التى تتمتع بأطر سياسة نقدية قوية وتوقعات تضخمية راسخة، مثل معظم دول أوروبا الوسطى والدول الآسيوية، بطريقة مماثلة لنظيراتها في العالم المتقدم.
ولكن الدول الآخرى، التي سيتفاقم لديها ميزان المدفوعات أو مشكلة التضخم أو كليهما نتيجة الصدمة البترولية، فقد ترفع أسعار الفائدة، وستكون تركيا هي المرشح الرئيسي لذلك.
وبجانب آثار ارتفاع أسعار البترول العالمية على التضخم، يمكن أن يكون للحرب في منطقة الشرق الأوسط آثار اقتصادية غير مباشرة أخرى، فقد تتأثر المعنويات الاقتصادية وطرق الشحن التجارية بتلك الحرب، وسيأتى كل هذا فى وقت يعد فيه النمو الاقتصادى العالمى هشاً بالفعل، كما أن كل تلك الأمور ستضاف إلى مجموعة الأسباب التى تعزز عدم اليقين تجاه التوقعات العالمى، بما في ذلك الحرب التجارية وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى.
التأثير على أسواق المال
أشارت التجارب السابقة إلى أن أسواق المال المحلية والعالمية، تتأثر باندلاع الحرب في الشرق الأوسط، إذ تسببت الصدمات السياسية السابقة بالمنطقة في هروب رؤوس الأموال، مما يفرض بعض الضغوط المؤقتة على ربط عملات دول الخليج بالدولار، فقد انحرف سعر صرف الريال القطري لفترة وجيزة بعد الحصار الذى فُرض على البلاد فى منتصف عام 2017، كما واجه الريال السعودي ضغوطا عقب مقتل الصحفى جمال خاشقجى.
ومع ذلك، من المحتمل تعويض أى ضغوط على ربط العملات بالدولار، ناتجة عن هروب رؤوس بشكل أكثر من خلال تعزيز عائدات الهيدروكربونات الناتج عن ارتفاع أسعار البترول وإنتاجه.
وفي الواقع ستصل إيرادات الخليج السنوية لتصدير البترول إلى نحو 430 مليار دولار “أى 13.7% من الناتج المحلي الإجمالى” إذا ارتفعت أسعار البترول من مستواها الحالى البالغ 60 دولاراً للبرميل إلى 150 مليار دولار، بجانب المدخرات الكبيرة الحجم في سوق العملات الأجنبية بالخليج، مما يعنى أن ربط العملات بالدولار يجب أن يظل كما هو دون تغيير.
ووفقاً لذلك، ربما لا تكون هناك أى غرابة فى تأثير الحرب على أسواق المال فى المنطقة، وعلى الصعيد العالمي، قد يتسبب اندلاع صراع مع إيران وارتفاع أسعار البترول بحدة، فى إضعاف شهية المستثمرين للمخاطرة، مما يؤدي إلى تراجع الأصول الآمنة، مثل السندات السيادية في الأسواق المتقدمة والذهب، وفى المقابل ستعانى الأصول المحفوفة بالمخاطر، مثل أسواق الأسهم وعملات الأسواق الناشئة.
تكلفة الصراع على الولايات المتحدة
ربما يشكل الانخراط في الحرب مع إيران، عبئا آخر على موارد الحكومة الأمريكية، إذ كانت حرب الخليج الأولى أرخص حرب رئيسية خاضتها الولايات المتحدة فى التاريخ الحديث، حيث كلفت البلاد 0.3% فقط من الناتج المحلى الإجمالى للبلاد، في حين أن الحكومة الأمريكية كانت تنفق ما يعادل 36% من الناتج المحلى الإجمالى سنوياً خلال الحرب العالمية الثانية.
ومع ذلك، ستعتمد تكلفة انخراط الولايات المتحدة في حرب أخرى بالشرق الأوسط، في نهاية الأمر، على مدى طول وشدة الصراع، ولكن فى ظل الافتراض العملى بأن الصراع سيقتصر على استهداف الهجمات للبنية التحتية العسكرية الإيرانية، فإنه من المتوقع اقتراب تكلفة الحرب بشكل أكبر من تكلفة حرب الخليج الأولى، وبالتالى فإن اندلاع حرب مع إيران لا يثير أى مخاوف بشأن الموارد المالية العامة الأمريكية.