هل يمكن إنقاذ التجارة بين أوروبا وإيران؟، فشلت محاولات الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون فى التوسط بين أمريكا وإيران، كما وصل مقترح “انستكس” وهو تأسيس “كيان لأغراض خاصة” لتفادى العقوبات الأمريكية إلى طريق مسدود، وتبتعد معظم الشركات الأوروبية عن إجراء معاملات تجارية مع إيران، وانخفضت واردات أوروبا من البترول الإيرانى إلى صفر.
ومع استمرار حملة “العقوبات القصوى” من قبل حكومة الرئيس دونالد ترامب، يبدو أن أوروبا لن ينقصها فحسب وسائل الدفاع عن تجارتها مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وإنما سوف يكون هناك القليل للدفاع عنه.
ولكن نظرة أقرب لبيانات التجارة تروى قصة مختلفة، فالتكنولوجيا الأوروبية مترسخة بقوة فى الاقتصاد الإيرانى، خاصة القطاع الصناعى الكبير فى الدولة، الذى يوظف واحداً من كل ثلاثة عمال إيرانيين وعلى النقيض يوظف قطاع البترول واحداً من كل 200 عامل، وتعد صادرات قطع الغيار، والآلات، ومعدات النقل الأوروبية – بموجب الفصل السابع من نظام التصنيف التجارى الدولى المعيارى – بلا شك مؤشر أكثر أهمية على العلاقات التجارية الأوروبية الإيرانية من مشتريات أوروبا من البترول الإيرانى.
وانخفضت قيمة تلك الصادارت إلى النصف منذ أن فرضت حكومة ترامب عقوبات ثانوية فى نوفمبر 2018، وبالنظر إلى إجمالى صادرات الاتحاد الأوروبى كان متوسط قيمة الصادرات الشهرية 970 مليون دولار فى 12 شهراً قبل إعادة فرض العقوبات، وانخفضت إلى 433 مليون دولار فى العشرة أشهر اللاحقة التى تتوافر فيها البيانات.
ويعد أغلب القطاع الصناعى فى إيران شركات مملوكة للحكومة، ويندرج معظمها فى قائمة عقوبات وزارة الخزانة الأمريكية، وبالتالى من المفترض أن تكون محظورة على الشركات الأوروبية التى تريد مواصلة العلاقات التجارية مع الولايات المتحدة.
ولكن رغم هذه العوائق الكبيرة، تواصل أوروبا تصدير قطع غيار وآلات ومعدات نقل بمليارات الدولارات إلى إيران، ولا تحظر الولايات المتحدة التصدير إلى شركات القطاع الخاص والشركات غير الخاضعة للعقوبات على قطاع ما مثل تلك على قطاع الطاقة الإيرانى، وهذا يعنى أنه طالما كانت الشركات الأوروبية قادرة على إيجاد بنك مستعد لقبول المدفوعات مقابل الصادرات – وهى مهمة صعبة للغاية – فيمكن للتبادل التجارى أن يتم.
وتستحق هذه التجارة الدفاع عنها ولا يجب أن ييأس المسئولون الأوروبيون فى صراعهم للحفاظ على التجارة الثنائية فى وجه العقوبات الأمريكية، واستمرار هذه التجارة يوضح جلياً أن إيران أيضاً لا تستطيع ببساطة التخلى عن أوروبا رغم الخطابات السياسية للمرشد الأعلى على خامنئى.
ويوجد اعتقاد خاطئ بأن حملة العقوبات متعددة الأطراف التى امتدت من مارس 2008 إلى يناير 2016، والتى تضمنت عقوبات أوروبية، أجبرت إيران على التحول عن أوروبا لصالح الصين، ولكن بينما نمت تجارة إيران مع الصين بشدة فى هذه الفترة؛ حيث نمت صادرات قطع الغيار والآلات ومعدات النقل الصينية إلى إيران من 2.9 مليار دولار فى 2007 إلى 7.8 مليار دولار فى 2015 لكن يمكن ملاحظة نمو مشابه فى معظم الصادرات الصناعية الصينية لباقى دول العالم، فبعد كل شىء، تزامنت فترة العقوبات مع صعود الصين كمصدر رئيسى للبضائع المصنعة عالية الجودة، ومع ذلك، فقد تعافت الصادرات الأورويبة إلى إيران فور رفع العقوبات.
ويعود السبب فى ذلك إلى أنه عندما مر القطاع الصناعى فى إيران بمرحلة التحديث الأخيرة أوائل القرن الجارى، اتخذت الشركات الأوروبية الريادة فى تأسيس المصانع ونقل التكنولوجيا، ودفع المهندسون الفرنسيون انطلاق قطاع تصنيع السيارات فى إيران، ووضع المهندسون الألمان قطاع تصنيع المركبات على المسار الحديث، بينما أطلق المهندسون الإيطاليون قطاع التغذئة.
وتحتاج إيران للمدخلات الأوروبية للمحافظة على استمرارية عمل خطوط الإنتاج، ورغم أن الشركات الصينية أصبحت مورداً رئيسياً للبلاد، فإنهم لم يتمكنوا من “فطام” القطاع الصناعى الإيرانى من اعتماده على أوروبا، ويعود ذلك إلى أن الفترة التى شهدت ذروة العقوبات امتدت لعشرين شهراً فقط من يناير 2012 إلى نوفمبر 2013، ثم أدت المفاوضات النووية إلى تخفيف مبدئى للعقوبات تضمنت تعليق العقوبات على قطاع السيارات، ولذلك لم يشعر القطاع الصناعى فى إيران أبداً بالحاجة للقضاء تماماً على اعتماده على قطع الغيار والتكنولوجيا الأوروبية.
ويستغرق الأمر سنوات لتأسيس مصانع وسلاسل توريد، ولكن أيضاً يتطلب فرض عقوبات لسنوات طويلة حتى يتفكك الاعتماد الذى ترسخ عبر العلاقات التجارية التاريخية.
ويشعر الساسة الإيرانيون بالإحباط من المجهوادت الأوروبية غير الكافية للتصدى للعقوبات الأمريكية، ومع ذلك لا يستطيعون ببساطة التخلى عن علاقاتهم مع الغرب وهو ما يعطى أوروبا ميزة تفاوضية فريدة.
والآن مع إعلان إيران المزيد من التخلى عن التزاماتها بموجب الاتفاق النووى، سوف يدعو البعض فى أوروبا لإعادة فرض العقوبات الأوروربية وهو ما سيدمر العلاقات التجارية الصناعية مع إيران، ولم تعد السلطات الإيرانية تعتقد أن أمريكا يمكنها فرض عقوبات ذات تأثير اقتصادى كبير على الدولة، ولكن أوروبا تستطيع.
وهذا يجعل أوروبا طرفاً مهماً فى أى مفاوضات؛ حيث يجب أن تتخذ موقفاً مختلفاً من إعادة فرض أمريكا لعقوبات ثم السعى لإجراء مفاوضات، ويجب أن تضع تجارتها مع إيران فى قلب دبلوماسيتها.
بقلم: اسفنديار بطمنجيلج، رئيس منتدى “إيران – أوروبا”
إعداد: رحمة عبدالعزيز
المصدر: وكالة أنباء “بلومبرج”