“لماذا تعتبر الهواتف الخلوية اﻷمريكية باهظة الثمن؟” كان هذا التساؤل بسيطا للغاية.
ولكن الكاتب والاقتصادي بجامعة نيويورك، توماس فيليبون، سعى جاهدا وراء الإجابة وشرع في تحليل تجريبي تفصيلي حول طريقة تشغيل اﻷعمال التجارية في الولايات المتحدة الآن، وانتهى به المطاف بتدمير ما يعتقده أو يقرأه الكثيرون عن أكبر اقتصاد في العالم.
على مدار العقدين الماضيين، بدأت السياسة التنافسية في الضمور، وأصبحت لها عواقب وخيمة، وفقا لما كتبه فيليبون ، في مناقشته المتميزة وكتابه الهام الصادر بعنوان “الانعكاس العظيم: كيف تخلت أمريكا عن اﻷسواق الحرة ؟” واستند في كتابه على التحليل الدقيق للبيانات.
وأوضح فيليبون ، أن الولايات المتحدة لم تعد موطن اقتصاد السوق الحر. فالمنافسة ليست أكثر شراسة من أوروبا، والجهات المنظمة ليست أكثر فاعلية أيضا، كما أن حصادها الجديد من الشركات الخارقة لم يختلف اختلافا جذريا عن أسلافها.
ويلخص الكتاب بعض النتائج بوضوح، أولها أن الأسواق الأمريكية أصبحت أقل قدرة على المنافسة ، إذ يرتفع مستوى المركزية في العديد من الصناعات ، في حين أن القادة متمسكون بمناصبهم وأرباحهم عالية بشكل كبير.
والأمر الثاني يتمثل في أن نقص المنافسة، يلحق الضرر بالمستهلكين والعمال الأمريكيين، إذ أدى إلى ارتفاع الأسعار وتراجع الاستثمار وانخفاض نمو الإنتاجية.
أما الأمر الثالث الذي يأتي خلافا للحكمة الشائعة، فإن التفسير الرئيسي لانخفاض مستوى المنافسة هو تفسير سياسي وليس تكنولوجي.
وأفاد الكاتب مارتن وولف في مقال نشرته صحيفة “فاينانشيال تايمز” البريطانية، أن كل هذه الأمور مدعومة بأدلة مقنعة.
فأسعار الوصول إلى خدمات اتصالات النطاق العريض في الولايات المتحدة، على سبيل المثال، تقارب ضعف ما هي عليه في الدول المماثلة. كما أن أرباح شركات الطيران نظير كل مسافر، أعلى في الولايات المتحدة أيضا من الاتحاد الأوروبي.
وأظهر التحليل، على نطاق أوسع، أن الحصص السوقية أصبحت أكثر تركيزا وثباتا. كما زادت الأرباح.
وعلاوة على ذلك يؤدي التركيز الأكبر في الصناعات إلى زيادة الأرباح، مشيرا إلى أن التأثير كان كبيرا بشكل عام ،إذ تضاعفت حصة الأرباح بعد الضريبة في إجمالي الناتج المحلي للولايات المتحدة تقريبا منذ التسعينيات.
وهناك عدة أسباب لزيادة تركيز السوق. فقد لعبت المنافسة مع الصين في مجال التصنيع دورا في دفع المنافسين المحليين الأضعف، للخروج من السوق.
كما أنه لا تزال هناك حاجة إلى تفسيرات أخرى بالنسبة لباقي الاقتصاد.
وفي تسعينيات القرن الماضي، دفعت الشركات الخارقة، بما في ذلك عملاق التجزئة “وول مارت”، معدل الاستثمار ونمو الإنتاجية إلى الأعلى، ولكن حدث العكس في بداية الألفية الجديدة، إذ أدى ارتفاع تركيز السوق إلى ارتفاع أرباح الشركات، وانخفض معدل الاستثمار ونمو الإنتاجية.
ويعكس هذا الشكل الخطير من التركيز المتزايد، انخفاضا كبيرا في أعداد الشركات الجديدة وزيادة تقبل نشاط الاندماج، أو بعبارة أخرى، يمكن القول إن الاقتصاد الأمريكي شهد انخفاضا كبيرا في مستوى المنافسة وارتفاعا مماثلا في الاحتكارات واحتكارات القلة.
وأشارت الصحيفة البريطانية إلى أن الكاتب فيليبون تحول إلى إجراء مقارنات مع الاتحاد الأوروبي من أجل توضيح وجهة نظره بشكل أكثر قوة، ولكن هذا الأمر قد يثير تساؤلات القراء.. فبعد كل ذلك، أليس الاتحاد الأوروبي يشكل كارثة اقتصادية؟
في الفترة بين عامي 1999 و 2017، ارتفع الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للفرد بنسبة 21% في الولايات المتحدة و25% في الاتحاد الأوروبي و19% في منطقة اليورو، رغم الأضرار الناتجة عن التعامل غير الكفء مع أزمتها المالية.
كما أن مستويات عدم المساواة والاتجاهات في توزيع الدخل أقل سلبية في الاتحاد الأوروبي، لذلك قُسمت الزيادات في الدخول بصورة أكثر توازنا.
وباختصار، تعتبر المقارنات بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة مُبررة، فهي تظهر عدم ارتفاع هوامش الربح ولا تركيز السوق في الاتحاد الأوروبي كما حدث في الولايات المتحدة.
فقد انخفضت حصة الأجور والمرتبات في إجمالي الدخل- ما يسمى بالقيمة المضافة – للأعمال بنحو 6% في الولايات المتحدة منذ عام 2000، ولكنها لم تتغير على الإطلاق في منطقة اليورو، مما يدمر الفرضية القائلة بأن التكنولوجيا هي المحرك الرئيسي للتحول الهبوطي في حصة دخل العمل.
وأكد فيليبون، أن اقتصاد الاتحاد الأوروبي ليس الاقتصاد الأقوى من كافة المقاييس، بل على العكس من ذلك تماما، تمتلك الولايات المتحدة جامعات أفضل ونظام بيئي أقوى للابتكار، من رأس المال الاستثماري إلى الخبرة التكنولوجية.
ومع ذلك، أصبحت المنافسة في أسواق المنتجات أكثر فاعلية في الاتحاد الأوروبي خلال العقدين أو الثلاثة عقود الماضية، وهو ما يعكس إلغاء القيود التنظيمية داخل السوق الموحدة والسياسة التنافسية الأكثر جرأة واستقلالية.
وفي الوقت نفسه، سلط فيليبون، الضوء على ما أسماه “GAFAMs”، وهو تحالف “جوجل” و”أمازون” و”فيسبوك” و”أبل” و”مايكروسوفت”، موضحا أن الثقل الاقتصادي لهذه التكنولوجيا العملاقة ليس أكبر من عمالقة الماضي، ولكن صلاتهم بالاقتصاد ككل أصغر بكثير، لذلك ليس غريبا أن يكون تأثيرها على نمو الإنتاجية متواضع نسبيا.
ومثلما عرف الاقتصاديون منذ آدم سميث، ستحاول الشركات فرض قيود على المنافسة بمفردها وبحماس كبير، والنتيجة هي ظهور الرأسمالية الريعية، وهي غير فعالة وغير شرعية من الناحية السياسية، ومع ذلك تكمن الصعوبة في أنه يمكن أن يكون من السهل للغاية على شاغلي الوظائف شراء الحماية السياسية والتنظيمية التي يرغبون فيها.
ولكن ما الذي ينبغي أن تريده الولايات المتحدة؟
يقترح فيليبون، إجابات عديدة، من بينها الدخول الحر، ومنظمون مستعدون لارتكاب الأخطاء عند العمل ضد الاحتكار وحماية العملاء للشفافية والخصوصية وملكية البيانات، ولكن هناك عقبة كبيرة أمام العمل في الولايات المتحدة وهي الدور الحاسم للمال في السياسة الأمريكية، مما يسبب الاحتكار وحكم الأقلية.