تنهى ديون الأسواق الناشئة العقد الحالى فى وضع قوى، ففى ظل تحقيق عائد إجمالى مكون من رقمين وتقلبات أقل من المتوسط، تمتع المستثمرون بأداء قوى خلال العام الحالى، مما دفع رأس المال للعودة إلى فئات الأصول بعد المرور بفترة صعبة فى عام 2018، وبالطبع، جاء هذا فى ظل التوازن غير المستقر بين انخفاض السيولة العالمية وتباطؤ النمو المتزامن.
وقالت صحيفة “فاينانشيال تايمز” البريطانية، إن الرواية المتباينة بين الأداء القوى للأسواق والبيانات الأساسية الضعيفة تسببت فى تساؤل البعض حول مدى استدامة ارتفاع مخاطر الأصول هذا العام.
ولم يكن هناك سوى أماكن قليلة للاختباء من تباطؤ النشاط الاقتصادى هذا العام، سواء فى الدول الصناعية أو فى العالم النامى، ففى الولايات المتحدة، تظل ثقة المستهلكين مدعومة من انخفاض أسعار الفائدة وارتفاع مستوى الدخول وسوق العمل النابضة بالحياة.
وفى الوقت نفسه، أثر عدم اليقين التجارى بشكل كبير على الثقة فى الأعمال التجارية والصادرات والاستثمار، فقد تنخفض إنتاجية قطاع التصنيع بشكل أكبر فى ظل وقوع سلاسل الإمداد العالمية الطويلة الأمد تحت التهديد.
وكانت صورة النمو خارج الولايات المتحدة أسوأ بكثير، فقد واجهت أوروبا عرقلة ناتجة عن ضعف الطلب ومخاطر خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى، بينما لاتزال اقتصادات الأسواق الناشئة، الموجهة نحو التصدير، حساسة للغاية تجاه الحمائية التجارية العالمية.
التباطؤ الهيكلى
ومع ذلك، يمتد اتجاه تباطؤ نمو الأسواق الناشئة إلى ما هو أبعد من تصاعد التوترات التجارية اﻷخيرة بين الصين والولايات المتحدة.
من جوانب عديدة، كان العصر الذهبى للأسواق الناشئة هو العقد الأول من الألفية الجديدة، بعد انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية فى عام 2001، فقد حُددت تلك الفترة من خلال النمو السريع فى نصيب الفرد من الناتج المحلى الإجمالى فى أوروبا وارتفاع أسعار الصرف والتجارة العالمية المزدهرة، واستهلك التوسع فى الاستثمار، الذى تقوده الصين، خلال تلك السنوات كميات كبيرة من السلع، مما دعم وضع كثير من الدول المنتمية للعالم النامى.
وعلى النقيض من ذلك، كان العقد الثانى أقل رحمة بكثير للأسواق الناشئة، فقد أثر تراجع العولمة وتراجع الإنتاجية وتراجع التعددية السياسية بشدة على النمو رغم وفرة السيولة العالمية، بالإضافة إلى ذلك، تسببت دورة التكنولوجيا العالمية، التى تتمثل فى الهواتف الذكية ومراكز البيانات، فى إعاقة الصادرات الآسيوية إلى حد كبير، والتى كانت تعتبر محركاً لنمو اﻷسواق الناشئة، كما أن التحول الهيكلى للصين، من اقتصاد منخفض الدخل وقائم على التصدير ومتعطش للموارد إلى اقتصاد متوسط الدخل وموجه نحو السوق المحلى والمستهلك، أثر على نمو الأسواق الناشئة أيضاً.
صورة النمو خارج الولايات المتحدة أسوأ بكثير حيث واجهت أوروبا ضعف الطلب والخروج البريطانى
ومع ذلك، تتمتع أسواق الدخل الثابت فى اﻷسواق الناشئة، خاصة الديون المقومة بالعملات اﻷجنبية، بعائدات قوية معدلة حسب المخاطر فى الفترة منذ الأزمة المالية العالمية.
وفى حين أن فئات الأصول لاتزال متقلبة ومحفوفة بالمخاطر، تعتبر الفوائد التى تعود على المستثمرين، النمو والعائد والارتباط الضعيف بأصول السوق المتقدمة، مغرية بشكل كبير.
إذاً، ما الذى سيجلبه العقد القادم للمستثمرين الذين يحاولون التحرك فى مشهد ديون الأسواق الناشئة؟
توقعات قريبة المدى
تبدو التوقعات اﻷساسية قصيرة المدى معتمة، وسط تباطؤ النمو وركود الصادرات واستمرار التوترات التجارية العالمية، فالنشاط الاقتصادى المعتدل المصحوب بتضخم ضعيف وفجوات سلبية فى الناتج لم يمر دون أن يلاحظه صناع السياسة فى الأسواق الناشئة.
وسارعت البنوك المركزية، من المكسيك إلى ماليزيا وصربيا إلى سريلانكا، فى التحرك نحو دورات تخفيف السياسة لتحقيق الاستقرار فى النشاط، ويبدو أن هذا الاتجاه سيستمر حتى العام المقبل وسط احتمالية عدم تشديد البنك الاحتياطى الفيدرالى سياسته فى أى وقت قريب.
وأوضحت “فاينانشيال تايمز”، أن هذا اﻷمر وفر بيئة صحية لسندات اﻷسواق الناشئة المقومة بالعملة المحلية، حيث انخفضت عائداتها بشكل حاد على مدار الـ12 شهراً الماضية.
وفى الوقت نفسه، لاتزال الدول النامية تتمتع بمساحة كبيرة لخفض أسعار الفائدة بشكل أكثر بالنظر إلى ارتفاع أسعار الفائدة الحقيقية، بينما لا تتمتع البنوك المركزية الخاصة بمجموعة العشرة بهذا الترف كما أنها تفقد طريقها نحو السياسات النقدية سريعاً.
ما وراء السياسة النقدية
وأشارت الصحيفة البريطانية إلى أن هذا يترك احتمال التخفيف المالى باعتباره البوابة الواضحة التالية لتخفيف الظروف المالية العالمية بشكل أكثر، وربما تكون التخفيضات الكبيرة التى أقرتها الهند مؤخراً فى ضرائب الشركات وزيادة نسبة عجز الموازنة المستهدفة فى كوريا الجنوبية بمثابة مخطط أولى للدول المتقدمة بهذا الصدد.
ومع ذلك، سوف تشكل أى زيادة فى عبء الديون العالمية الضخمة بالفعل، والتى قدر معهد التمويل الدولى نسبتها الحالية بأكثر من 320% من الناتج المحلى الإجمالى، عقبة هيكلية أخرى أمام النمو العالمى طويل الأجل.
وفى الأسواق الناشئة، وضع كثيراً من الأمل هذا العام على الحوافز المالية الصينية للمساعدة فى حل معضلة النمو، رغم أن الاستجابة السياسية من بكين كانت مخيبة للآمال حتى الآن، فرغم أن الاحتياطى الفيدرالى لا يزال يحدد التكلفة العالمية لرأس المال، إلا أن الصين هى التى تحدد وتيرة النمو العالمية.
وكانت التخفيضات الضريبية وزيادة المساحة لإصدار سندات الحكومة المحلية موضع ترحيب، ولكن من الواضح أن العقبات التى تواجه التمديدات الائتمانية الضخمة مرتفعة.
ويبدو أن تكرار الدوافع الائتمانية الرئيسية فى عامى 2009 و2015، التى عززت الطلب على السلع وضعف الدولار الأمريكى، أمراً بعيد الاحتمال لعدة أسباب، أولها أن التباطؤ فى النمو الصينى وأرباح الشركات والعمالة لم يكن حاداً كما كان فى السابق.
ويتمثل السبب الثانى فى أن الصين لم تعد تستفيد من الاستقرار فى الفائض الكبير بالحساب الجارى، أما السبب الثالث واﻷخير فهو أن مستويات ديون الصين أصبحت أعلى بكثير الآن، مما دفع بكين إلى إعادة ضبط أولويات الاستقرار المالى على انتعاش النمو.
ومن المرجح أن تكون أى حوافز مالية صينية إضافية أخرى متواضعة وذات توجه محلى وأقل فائدة فى نهاية اﻷمر بالنسبة لمصدرى السلع فى الأسواق الناشئة، مما يشكل لغز بالنسبة للأسواق الائتمانية فى الأسواق الناشئة، التى تصارع بالفعل مع المخاطر المتزايدة لإعادة هيكلة الديون السيادية فى دول، مثل الأرجنتين ولبنان وزامبيا.
وفى الوقت نفسه، لاتزال العوامل التقنية السوقية لديون اﻷسواق الناشئة المقومة بالعملات اﻷجنبية داعمة بالنظر إلى الطلب العالمى المستمر على العائد فى عالم يتمتع بمعدل فائدة منخفض.
ومع وجود قسيمة تزيد على 5% فى الوقت الحالى، يمكن أن يقدم عدد قليل من فئات الأصول البديلة نفس الدخل الناتج عن الدين الخارجى للأسواق الناشئة، ومع ذلك فإن صناديق المعاشات التقاعدية وشركات التأمين لاتزال غير مخصصة من الناحية الهيكلية لفئات الأصول، ومن المنطلق نفسه، لا تزال اﻷسواق الناشئة غير ممثلة بشكل كافى فى مؤشرات السندات العالمية، بالنظر إلى أنها تسهم الآن بأكثر من نصف الناتج المحلى الإجمالى فى العالم.
السياسة والمناخ
تشير التطورات الأخيرة أيضاً إلى أن العقد المقبل ربما يبشر بعهد جديد من الخطر السياسى المتزايد فى الأسواق الناشئة، فرغم أن استقرار الحكومات لم يفارق عقول المستثمرين أبداً، إلا أن وتيرة الاحتجاجات الشعبية غير العادية خلال الخريف فى دول، مثل شيلى وبوليفيا والعراق ولبنان وإكوادور، تسببت فى صدمة للأسواق.
وفى الماضى، كانت المخاطر السياسية فى اﻷسواق الناشئة تميل إلى الذروة وتظهر الاضطرابات المتوقعة مع الدورات الانتخابية، ولكن الواقع الجديد يدور حول إمكانية إثارة وسائل التواصل الاجتماعى لاضطرابات شبه فورية وعدم شعور النخبة السياسية بالاستقرار، وبالتالى من المتوقع ارتفاع معدلات المخاطر السياسية فى الأسواق الناشئة العام المقبل.
وفى الوقت نفسه، تشكل التغيرات المناخية تحدياً كبيراً بالنسبة للأسواق الناشئة خلال السنوات القادمة، فهى أثرت بالفعل على الدول النامية بشكل غير متناسب، كما أن الضغط السياسى من الناخبين ربما يجبر الحكومات فى العالم بأسره على تسريع التدابير الإصلاحية.
التفكير فى المستقبل
من الناحية الهيكلية بالنسبة للأسواق الناشئة، ربما تسيطر المعركة على الهيمنة العالمية بين الولايات المتحدة والصين على اﻷحداث فى اﻷعوام الـ10 المقبلة، حيث ستمتد هذه المعركة إلى ما هو أبعد من تصعيد التعريفات الجمركية وإلى مجالات مثل الذكاء الاصطناعى والأمن السيبرانى والروبوتات والتفوق العسكرى والتأثير الجيوسياسى.
وربما يشهد العالم انفراجة قصيرة اﻷجل بشأن التجارة بين الرئيس اﻷمريكى دونالد ترامب ونظيره الصينى شى جين بينغ خلال الأسابيع المقبلة، ولكن الاتفاق الأعمق على القضايا الأكثر أهمية سيظل بعيد المنال، مما قد يؤثر بشكل أكبر على الآفاق طويلة الأجل لكل من العملة الصينية وعملات الأسواق الناشئة وسط حساسيتها للنمو والتجارة العالميين.
وأوضحت “فاينانشيال تايمز”، أن الانتعاش الحقيقى فى النمو العالمى وفترة انخفاض قيمة الدولار الأمريكى سيظلان شرطين أساسيين لتحقيق أداء مستدام للأسواق المحلية بالنسبة إلى ائتمان العملة الصعبة.
وفى الوقت نفسه، ستستمر التركيبة السكانية المواتية، التى تعد مرساة قوية وطويلة الأمد للنمو المحتمل، فى إحداث تأثير كبير على ديون اﻷسواق الناشئة.
ومن المتوقع أن يشهد العقد المقبل ارتفاعاً كبيراً فى الاستثمارات والتدفقات الرأسمالية فى الأسواق الحدودية، مثل أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، التى تشهد نمو سريع الوتيرة فى توسعات القوى العاملة.
فرصة فريدة
يعتبر الانتقال العالمى نحو الثورة الصناعية الثالثة خلال العقد المقبل أيضاً بمثابة فرصة للأسواق الناشئة، التى عانت من عجز فى البنية التحتية لفترة طويلة، ولكنها أصبحت الآن أمام فرصة فريدة للبدء من نقطة الصفر واللحاق ببقية العالم.
وفى ظل انخفاض تكلفة التكنولوجيا والنقل وإنتاج الطاقة المتجددة بشكل سريع، تحتاج اﻷسواق الناشئة إلى إعادة توجيه نشاطاتها بعيداً عن النموذج الاقتصادى القائم على تصدير الموارد، كما أن الدول النامية بحاجة إلى توجيه أولويات البنية التحتية والاستثمار والتعليم والحوكمة نحو الابتكار فى الاقتصاد الرقمى والأتمتة واستدامة الموارد.
وفى الوقت الذى سيصعب فيه على مستثمرى ديون الأسواق الناشئة الاستثمار فى الكثير من هذه اﻷمور طويلة الأجل، إلا أنه من المؤكد أنها ستضمن بقاء فئات الأصول نابضة بالحياة وجيدة، كما كان الوضع، خلال العقد القادم.