لسنوات، بدأ التضخم المنخفض، مشكلة كلاسيكية في العالم الغني. ولكنه أصبح الآن مشكلة تعاني منها كثير من الاقتصادات النامية.
لذا تتخذ البنوك المركزية في هذه الدول، خطوات مماثلة لنظيراتها في الدول المتقدمة ، بهدف التصدي لهذه المشكلة، منها خفض أسعار الفائدة.
قالت وكالة أنباء “بلومبرج”، إن البنوك المركزية لديها مساحة أكبر للاستمرار، ولكنها تواجه مزيدا من العقبات أيضا أثناء اتخاذها قرارات خفض أسعار الفائدة. وأكبر العقبات هي عملاتها، وهي مشكلة لا تلوح في الأفق بالنسبة لمحافظي البنوك المركزية في العالم الغني.
وانتعشت أسعار الصرف في الأسواق الناشئة، وسط التدفقات الرأسمالية إلى داخل وخارج البلاد، إذ تفاقمت تلك التدفقات نتيجة تميز الدول المتقدمة بسنوات من الأموال الرخيصة. ولكن عندما تضيع النقود وتضعف العملات، فإن تأثيرها يكون أكبر على الأسعار من الدول المتقدمة.
وقالت كبير الاقتصاديين لدى مؤسسة “آي.إتش.إس ماركيت” للدراسات الاقتصادية، ناريمان بيهرافيش، إن الاقتصادات الناشئة تقع تحت رحمة البنوك المركزية الكبرى، مشيرة إلى أنهم يمتلكون مساحة أقل للمناورة.
لا تكن محافظا
أوضحت “بلومبرج”، أن هذا النهج واحد من الأسباب الكامنة خلف عدم تحرك الأسواق الناشئة سريعا وبقوة. فمن المتوقع أن يساعدوا الاقتصاد العالمي ببعض التسهيلات النقدية في عام 2020، ولكن صانعي السياسة في دول مثل المكسيك وروسيا، التي تعاني من أزمات العملة، يترددون في خفض تكاليف الاقتراض، حتى مع وصول التضخم إلى أدنى مستوياته في عقود.
والنتيجة هي ارتفاع أسعار الفائدة، نسبة إلى التضخم والعملات القوية، فهي مزيج جذاب للمستثمرين المكافحين للعثور على عوائد في أماكن أخرى.
وقال الاقتصادي لدى “أكسفورد إيكونوميكس”، جابرييل ستيرن، إن هذا الأمر قد يضر الاقتصادات عن طريق الحفاظ على شروط السياسة المشددة بشكل غير ضروري.
وأشار إلى أن الدرس المستفاد من الدول الغنية، حيث ظل التضخم منخفضا باستمرار، هو عدم اتخاذ نهج محافظ للغاية. فهذا الأمر صعب للغاية بالنسبة للبنوك المركزية في الأسواق الناشئة، لأنها معتادة على التضخم بالفعل، وهي مصداقية اكتسبتها ولا تريد خسارتها سريعا.
نموذج جديد
عانت المكسيك من ركود اقتصادي هذا العام، ولم تتمكن روسيا من تسجيل معدل نمو يزيد عن 3% في أي ربع سنوي منذ عام 2012.. وبالتالي قام البنكان المركزيان في البلدين بخفض أسعار فائدتهما ببطء شديد.
ومع ذلك، لا يزال البنك المركزي المكسيكي والروسي، يملكان المساحة الكافية لإجراء مزيد من التخفيضات. ولكنهما قد لا يستخدمانها بشكل كامل، وفقا لبحث صادر عن مؤسسة “جولدمان ساكس” اﻷمريكية للخدمات المالية والاستثمارية.
وفي الوقت نفسه، لا يتوقع خبراء الاقتصاد، انخفاض سعر الفائدة المرجعي في روسيا، البالغ 6.5% حاليا، إلى مستويات أقل من 6% في عام 2020.
وعلى النقيض من ذلك، أصبح التضخم بالفعل دون المستوى المستهدف البالغ 4% وربما يقترب من 2% بحلول نهاية العام المقبل، إذا واصلت الحكومة الإنفاق بشكل أقل مما وعدت به، وفقا للاقتصادي لدى “جولدمان ساكس”، كليمنز جراف.
وأشار إلى أن المعدلات الفائدة الحقيقية لا تزال مرتفة للغاية في المكسيك أيضا. كما أن دورة الخفض أبطأ مما توقعه الناس.
وجد “جولدمان ساكس” أن تركيا، التي عانت شركاتها من تراكم أكوام من الديون المقومة بالعملات الأجنبية، والبرازيل ، تأتيان ضمن الدول الناشئة الأكثر عرضة لضعف العملة إذا خفضت أسعار الفائدة بشكل أكثر.
وتعاني البرازيل، على وجه الخصوص، من المشكلة. فقد فاجأ رئيس البنك المركزي الجديد ، المتداولين هذا العام بتخفيفه السياسات بشكل أكثر من المتوقع. ولكنه احتاج، في الأسبوع الماضي، أن يفاجئهم مرة أخرى عن طريق الدخول إلى أسواق العملات الأجنبية، بعد أن وصلت العملة إلى مستوى قياسي منخفض.
وقال كريستوفر ديمبك، مدير تحليلات الاقتصاد الكلي في “ساكسو بنك”، إن ذلك الأمر يوضح حالة من توخي الحذر في نموذج الأسواق الناشئة الجديد.
الجميع يخافون
أوضح كريستوفر ديمبك، مدير تحليلات الاقتصاد الكلي في “ساكسو بنك”، أن التضخم المنخفض يرتبط في الغالب بالعوامل الهيكلية، مثل الشيخوخة والتكنولوجيا الجديدة ومستوى الديون.. بالتالي لن تساهم التخفيضات السريعة في أسعار الفائدة في معالجة هذه المشكلات، ولكن ربما تخلق بعض التقلبات في أسعار العملات.
وأضاف أن الحفاظ على ارتفاع أسعار الفائدة يترك مجالا للتصرف، حال كان عام 2020 هو عام الركود العالمي الذي يخشاه الجميع.
تعتبر إندونيسيا أيضا من الدول المدرجة في قائمة “جولدمان ساكس” للدول ذات معدلات الفائدة الحقيقية المرتفعة، وهي سعر الفائدة مطروحا منه معدل التضخم، وبالتالي فإنها تمتلك الحيز الكافي للخفض.
لكن البنك المركزي الإندونيسي قضى معظم العام الماضي في رفع أسعار الفائدة، وهي خطوة لم تكن مدفوعة بالتضخم الذي كان ذو معدلات ثابتة أو منخفضة، ولكنها ناتجة عن هزيمة العملة التي انتشرت في الأسواق الناشئة.
ولكن بنك إندونيسيا تحول نحو نهج التخفيف هذا العام، في ظل استقرار العملة، ولكن ليس من المتوقع أن يصبح عدوانيا للغاية، خصوصا أن الأموال آخذة في التدفق على السندات الإندونيسية.
يحدث الأمر نفسه في تايلاند أيضا، إذ تتسبب تدفقات رأس المال في مشكلات للبنك المركزي في البلاد، فالعملة المتشددة تلحق الضرر بالسياحة والصادرات.
وقال البنك المركزي التايلاندي إن ارتفاع “البات” التايلاندي لا يتماشى مع أساسيات الاقتصاد، ومع انخفاض أسعار الفائدة بالفعل إلى 1.25%، أشار صانعو السياسة إلى احتمالية استخدام أدوات أخرى.
وأوضحت “بلومبرج” أن الصدمات التي يمكن أن تسببها الأموال الساخنة للأسواق الناشئة- أثناء تدفق رؤوس الأموال من دولة إلى أخرى- تحظى باهتمام متزايد في معظم مستويات التفكير الاقتصادي العالمي وفي أماكن مثل صندوق النقد الدولي وبنك التسويات الدولية.
الاتكاء على التقلبات
تقود كبيرة خبراء الاقتصاد لدى صندوق النقد الدولي، جيتا جوبيناث، العمل على إطار جديد للسياسات، التي يمكن أن يوصى بها الصندوق للحكومات. ومن المتوقع أن تتضمن تلك الأطر، دورا أكبر للجهود المبذولة لإدارة التدفقات الرأسمالية وأسعار الصرف.
وقال الرئيس التنفيذي لبنك التسويات الدولية، أوغسطين كارستنز، في مايو الماضي، إن البنوك المركزية في العالم النامي تعتمد بالفعل على التقلبات في سعر الصرف.
ويجب عليهم ذلك، لأن العملة الضعيفة قد تؤدي إلى تضخم فوري، في حين أن العملة القوية قد تشجع الطفرات الائتمانية التي تشكل مخاطر على استقرار الأسعار على مدى أطول.
وأفاد اغوستن كارستنز، الرئيس السابق للبنك المركزي المكسيكي، أن الأسواق الناشئة لا تستطيع إدارة كل هذه المقايضات فقط من خلال رفع أو خفض أسعار الفائدة، مشيرا إلى أن البنوك قد تحتاج إلى مواصلة تطوير أدواتها السياسية غير التقليدية والانتباه للعملات القوية وكذلك العملات الضعيفة، خصوصا في ظل طواف كميات السيولة غير المسبوقة حول العالم بحثًا عن العائد.