لا شك أن قانون العمل يعد من التشريعات ذات الطابع الاجتماعى، حيث يهدف فى الأساس إلى حماية الطبقة العاملة باعتبارها الطرف الضعيف فى العلاقة العمالية التى تربط بين العمال وأصحاب الأعمال، ولكن ذلك الطابع الاجتماعى الذى يتسم به قانون العمل لا يجعله بمنأى عن المتغيرات الاقتصادية، فقانون العمل، فضلاً عن كونه ذات طابع اجتماعى فهو قانون ذو أبعاد اقتصادية، حيث أن من شأنه التأثير على العديد من المتغيرات الاقتصادية مثل حجم الاستثمارات وفرص التشغيل وحجم البطالة.
وهذا التأثير قد يكون بالسلب أو بالإيجاب، لذلك فإنه يتعين على المشرع أن يأخذ فى اعتباره تأثير قانون العمل على المتغيرات الاقتصادية، وأن يعمل على تجنب التأثيرات السلبية واستهداف التأثيرات الإيجابية، وذلك مع مراعاة الموازنة بين الجانبين الاجتماعى والاقتصادى، وعدم ترجيح كفة جانب من هذين الجانبين على الآخر؛ لما فى ذلك من آثار سلبية وخطورة على المصلحة العامة يتعين تجنبها ودرئها، فترجيح كفة الجانب الاقتصادى -المتمثل فى استثمارات ومصالح أصحاب الأعمال -قد يؤدى إلى حدوث اضطرابات اجتماعية، وفى ترجيح الجانب الاجتماعى – المتمثل فى كفة العامل -خطر يتمثل فى إحجام أصحاب الأعمال عن الاستثمار، وبالتالى تقليل فرص التشغيل وزيادة حجم البطالة.
ومن أهم تلك التأثيرات الإيجابية التى يتعين على المشرع استهداف تحقيقها من خلال تنظيمه لأحكام قانون العمل تحفيز الاستثمار، فتحفيز الاستثمار من شأنه المساهمة فى تحقيق التنمية الاقتصادية، التى تؤدى بدورها إلى خلق فرص عمل لتشغيل أكبر عدد من العاطلين من الخريجين والمساهمة فى الحد من نسبة البطالة بين الشباب، وزيادة دخول العاملين. ومن ثم ينبغى أن يعمل المشرع على تحفيز الاستثمار وإزالة جميع المعوقات التى من شأنها عرقلة الاستثمار فى مصر.
ولعل من أهم تلك المعوقات هو ما تتسم به مصر من ضعف كفاءة ومهارات مخرجات التعليم والتدريب سواء المهني أو التقنى؛ فالمستثمر يهدف إلى استثمار رءوس أمواله لتحقيق أكبر ربح ممكن، لذلك؛ فإنه يسعى منذ بداية مشروعه الاستثمارى نحو استخدام وتشغيل العمالة ذات المهارة المهنية والتقنية العالية التى يستطيع من خلالها تحقيق العائد الاستثمارى المستهدف، ونظراً لضعف كفاءة ومهارات مخرجات التعليم والتدريب المهنى والتقنى فى مصر، فإن المستثمر إزاء ذلك إما أن يحجم عن الاستثمار داخل مصر، خاصة فى المشروعات التى تحتاج إلى الأيدى العاملة الكثيفة أو أن يسعى إلى تشغيل العمالة الأجنبية ذات المهارة الفنية والتقنية، إلا أنه في هذا الصدد يجد نفسه مصطدماً بالقيود التى فرضها المشرع المصرى فى شأن تشغيل العمالة الأجنبية حماية للعمالة الوطنية، وعلى الأخص تلك المتعلقة بتحديد نسبة العمالة الأجنبية التى يجوز تشغيلها.
لذا يعتبر المستثمر ضعف كفاءة ومهارات العمالة الوطنية والقيود المفروضة على تشغيل العمالة الأجنبية عائقاً يحول دون استثمار رؤوس أمواله الاستثمار الأمثل داخل مصر، مما يدفعه إلى العزوف والإحجام عن الاستثمار فى مصر، وتفضيله الاستثمار فى دول تتوافر لديها العمالة الماهرة المتدربة، لذلك فإن مسألة التدريب المهنى والتقنى والتنمية البشرية تعد من المسائل المهمة التى يجب أن يتناولها تشريع العمل المزمع إصداره بالتنظيم الأمثل الذى يستهدف تحفيز الاستثمار من خلال رفع قدرات العمالة الوطنية لتتناسب مع متطلبات العمل لزيادة قدرتهم التنافسية فى مواجهة العمالة الأجنبية، ونعتقد أن ذلك يمكن أن يتم من خلال عدة محاور على النحو التالى:
المحور الأول: خلق آليات متخصصة تقوم على تطوير وتعميق الارتباط بين المؤسسات التعليمية والتدريبية ومؤسسات سوق العمل، إذ أن أكثر المشكلات التى تعانى منها نظم التعليم تكمن في عدم قدرتها على إعداد الكوادر القادرة على تلبية احتياجات سوق العمل، ومسايرة التغيرات الدائمة في هذه الاحتياجات، لذلك نحن بحاجة إلى تشريع يخلق آليات متخصصة فى تطوير أداء المؤسسة التعليمية والتدريبية ومؤسسات العمل، بهدف رفع قدرة تلك المؤسسات على إعداد وتأهيل شباب الخريجين بما يتوافق مع احتياجات سوق العمل.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنه قد سبق أن أكد الميثاق العالمى لفرص العمل الذي اعتمدته منظمة العمل الدولية عام 2009 على أنه سيكون أحد أهم حلول السياسة الخاصة بإنهاء أزمات فرص العمل حول العالم هو تزويد اليد العاملة بالمهارات اللازمة للتوظيف.
المحور الثانى: تشجيع مشاركة القطاع الخاص للارتقاء بمستوى أداء المؤسسات التعليمية والتدريبية العاملة فى مجال التعليم والتدريبين المهنى والتقنى، ذلك أن القطاع الخاص هو الأقدر على تحديد متطلباته من القوى العاملة وتحديد نوعية المهارة التى يجب أن تتسم بها، كما أن غياب المنافسة للقطاع الخاص وانفراد القطاع العام بالتعليم والتدريب المهنى والتقنى يعد من الأسباب الرئيسية للفجوة بين تنوع وجودة مخرجات التعليم وحاجة سوق العمل، لذلك ينبغى تحفيز القطاع الخاص للمشاركة في العملية التدريبية.
المحور الثالث: أن تقوم المؤسسات المعنية بتنظيم سوق العمل بالمشاركة مع القطاع الخاص بتوفير وإتاحة البيانات والمعلومات المحددة لاحتياجات سوق العمل المستقبلية من حيث نوعية المهن والوظائف وأعدادها والمهارات التى يحتاج اليها سوق العمل وخاصة النادر منها، وتزويد مؤسسات التعليم والتدريب المهنى والتقنى بتلك المعلومات.
وتجدر الإشارة إلى أن مراعاة ما تقدم ليس أمراً صعباً أو مستحيلاً خاصة أن المشرع المصري كان قد أظهر اهتمامه بمسألة التدريب المهنى عند تنظيمه لأحكام القانون رقم 12 لسنة 2003 بعد أن كان غافلاً تماماً عن تنظيم هذه المسألة في ظل القانون رقم 137 لسنة 1981، ولكن القانون رقم 12 لسنة 2003 لم يمنح القطاع الخاص الدور اللازم أن تقوم به للمشاركة فى العملية التدريبية، كما أنه لم يكن محفزا للقطاع الخاص لأن يقوم بهذا الدور، بل كان معرقلاً لذلك القطاع في أن يقوم بدوره في هذا الصدد.
فعلى سبيل المثال كان القانون رقم 12 لسنة 2003 قد ألزم منشآت القطاع الخاص بأن تسدد 1 % من صافي أرباحها لصندوق التمويل والتدريب والتأهيل، وهذه النسبة كانت فى الواقع العملى مثبطة جداً لأن يكون للقطاع الخاص دوراً فى عملية التدريب والتأهيل المهنى والتقنى وهذه المادة من المواد التى ندعو المشرع، لأن ينظر إليها ويعدلها بما يحفز القطاع الخاص ولا يثبطه للمشاركة فى العملية التعليمية وعمليات التدريبين المهنى والتقنى.
كما ينبغى أن نوضح أن التشريع وحده غير كافى لضمان إخراج عمالة مؤهلة متدربة ذات قدرة تنافسية فى مواجهة العمالة الأجنبية، بل بجانب التشريع يأتى دور الإرادة التنفيذية، فيجب أن تكون هناك إرادة من جميع المؤسسات سواء كانت مؤسسات خاصة أو عامة نحو تنفيذ أحكام التشريع والامتثال له، الامتثال الأمثل لتحقيق أهدافه التى تهدف فى النهاية إلى تحقيق التنمية الاقتصادية، ومن ثم الرفاهية للجميع.
دكتور/ أحمد عبد الله
شريك -بمكتب سرى الدين وشركاه
مستشارون قانونيون