قدمت اليابان ذات مرة حكاية تحذيرية حول تأثير سوء إدارة الاقتصاد الكلى وقدرته على تحويل القوى الهائلة إلى مجرد قوى متقاعسة ذات مكانة متخلفة، ولكن مع انتشار النمو الضعيف وأسعار الفائدة المنخفضة فى بقية العالم، أصبحت تلك اﻷمور تبدو أشبه بنوافذ فى المستقبل، فهى تكشف وجهات نظر أقل كآبة، مما كانت عليه فى السابق، فعلى سبيل المثال استعادت سياسات «أبينوميكس»، وهى سياسات اقتصادية داعمة للنمو قدمتها حكومة شينزو آبى منذ عام 2012، بعضاً من هيمنتها، ومع ذلك، يجدر التساؤل عما إذا كان برنامج آبى، الجرئ كما كان، راديكالياً بدرجة كافية، خاصة فى ظل تباطؤ النمو الاقتصادى مرة أخرى واقترابه من الصفر.
وقالت مجلة «ذى إيكونوميست» البريطانية، إن اليابان اكتسبت سمعتها كاقتصاد هائم بغير هدى فى التسعينيات، عندما عانت من فقاعة مالية تلاها تباطؤ النمو والانكماش وانخفاض أسعار الفائدة.
ففى الوقت الذى كانت تكافح فيه الحكومة لانتشال الاقتصاد من روتينه غير المثمر، كانت تلعب أيضاً دوراً ريادياً فى السياسات العامة للبلاد، مثل التيسير الكمى فهى كانت تقوم بطباعة النقود لشراء أصول مثل السندات الحكومية التى استخدمت فى جميع أنحاء العالم بعد الأزمة المالية العالمية.
وناقش خبراء الاقتصاد مقدار الركود الذى عانت منه اليابان نتيجة ضعف الطلب بدلاً من أوجه الجمود الاقتصادى، مثل ذلك الذى يعانى منه قطاع الشركات المرن ولكن بشكل غير كافى، وشكك البعض فى أنه كان هناك مجال للتحفيز لتعزيز النمو بعد سنوات من اﻷموال السهلة والعجز المتنامى، بينما اعتقد آخرون، أن اليابان يمكنها النجاة من مأزقها إذا كان قادتها يتسمون بالجرأة الكافية.
وأفادت المجلة، بأن سياسات «أبينوميكس» أظهرت أن الاقتصاد اليابانى يعانى بالفعل من ضعف الطلب، موضحة أن التحفيز المالى والنقدى كانا يأتيان ضمن 3 خطط مستهدفة ضمن جدول أعمال آبى أما الخطة الثالث فهى الإصلاح الهيكلى.
ورفعت حكومة رئيس الوزراء آبى الاستثمارات العامة كما أنها حفزت البنك المركزى اليابانى للعمل سريعاً، والذى وضع هدفاً للتضخم يقدر بـ%2 وشارك فى التسهيلات الكمية على نطاق واسع لتلبية هذا الهدف، وبالتالى استجاب الاقتصاد سريعاً، وانخفضت قيمة الين اليابانى، مما أعطى المصدرين دفعة للأمام، وارتفعت أسعار الأسهم، كما نما اقتصاد اليابان بنسبة جيدة تقدر بـ%2 خلال عام 2013.
واعتمدت اليابان على تلك النجاحات منذ ذلك الحين، حيث استطاع اقتصاد البلاد النمو بشكل سنوى تقريباً، كما انخفضت معدلات البطالة إلى %2.4، ولكن الركود لم ينته أبداً، ربما يكون الأمر كذلك، لو لم ترفع الحكومة معدل ضريبة الاستهلاك من %5 إلى %8 خلال عام 2014 فى محاولة لخفض كومة الدين الإجمالى الضخمة، التى بلغت %230 من الناتج المحلى الإجمالى عام 2012.
وفى الوقت نفسه، انخفض الاستهلاك الخاص، الذى ساعد فى تعزيز النمو فى عام 2013، خلال عام 2014، حيث تباطأ الاقتصاد آنذاك، كما أجلت الحكومة زيادة ثانية مقررة خشية الدخول فى ركود اقتصادى، ولكن حتى الآن، بعد مرور 5 أعوام، لايزال الاقتصاد ضعيفاً للغاية على تحمل التشديد المالى.
وفى أكتوبر الماضى، رفعت الحكومة اليابانية ضريبة الاستهلاك مرة أخرى إلى %10، وكانت الزيادة أكثر من المتوقع، مما أضر بمبيعات التجزئة وضغطت على الاقتصاد الذى عانى بالفعل من تباطؤ فى التجارة العالمية، ولكن الحكومة تستعد الآن لجولة من التحفيز، على أمل دفع اليابان للخروج من موجة الضعف التى تعانى منها حالياً.
ومع ذلك، أشارت «ذى إيكونوميست» إلى أن تحويل عبء الضريبة بعيداً عن المستهلكين ربما يساهم فى تنشيط إنفاق الأسر، ولكن خبراء الاقتصاد يفضلون زيادة ضريبة الاستهلاك على فرض ضرائب أعلى على الدخل أو الأرباح، والتى يخشون إمكانية تسببها فى مزيد من كبح النمو الاقتصادى.
ومع ذلك، أصبح من الواضح أن مشاكل الطلب فى اليابان ليست مجرد نتيجة للأزمة المالية، ولكنها مشاكل مزمنة بالأحرى، مما يعكس تحولاً ديموغرافيا عميقاً يعيق كل من الطلب والعرض، ويشق طريقه عبر العالم الغنى، وعلى مدار الـ20 عاماً الماضية، انخفض عدد السكان ممن هم فى سن العمل فى اليابان بأكثر من 10 ملايين عامل أو نحو %14، ويتوقع انخفاض أعدادهم بشكل أكثر خلال الـ20 عاماً القادمة، مما يسبب مشكلة حقيقة، فانخفاض عدد العمالة يدل على انخفاض النمو وانخفاض الحاجة للاستثمار.
وعلى الرغم من أن سياسات «أبينوميكس» عكست انخفاضاً طويلاً فى الاستثمارات، إلا أن الإنفاق كان منخفضاً جداً لمنع الزيادة المطردة فى اكتناز الشركات لمزيد من اﻷموال بدلاً من استثمارها والنقدية الخاملة واستنزاف الطلب من الاقتصاد.
ومع ذلك، وفى ظل انخفاض معدلات البطالة بشكل كبير، ربما يكون من المتوقع تدفق النقدية إلى العمال، ممن يمكن لإنفاقهم تحفيز النمو الاقتصادى بعد ذلك، ولكن الدخول ارتفعت ببطء بشكل مدهش، ويرجع ذلك جزئياً إلى اختيار الشركات للتشغيل الآلى بدلاً من التنافس على العمال الأكثر ندرة من خلال رفع الأجور، فبعض الشركات تنفق أموالها على الروبوتات بمجرد البدء فى الاستثمار.
وربما لم تف سياسات «أبينوميكس» بوعودها بعد، ولكن يمكن لدفعة بسيطة من التحفيز النقدية أن تؤدى إلى رؤية الاقتصاد فى رياحه المعاكسة الحالية، ولكن يمكن للاقتصاد الانتعاش بشكل كافى بمزيد من الإصلاحات وقليل من الحظ، وبالتالى إمكانية تحقيق الاستقرار فى الدين الحكومى حتى فى ظل نمو الإنفاق الاجتماعى.
وأوضحت المجلة البريطانية أن اليابان قد تكون بحاجة إلى سياسات أكثر راديكالية لحماية مستقبلها الاقتصادى، وربما تؤدى الهجرة واسعة النطاق تلك المهمة، ولكن اليابان لا تزال مجتمع مغلق وفقاً لمعايير العالم الغنى، فهناك %2 فقط من سكانها من أصل أجنبى، مقارنة بنسبة %13 فى بريطانيا و%22 فى كندا.
وبدلاً من ذلك، ربما تستمر اليابان فى ارتياد آفاق الاقتصاد الكلى، فقد أنفق بنك اليابان، من خلال التسهيلات الكمية، تريليونات مقومة بالين على الأسهم والسندات، وربما يحاول البنك توزيع أموال جديدة على الأسر، مما قد يؤدى إلى ارتفاع مستوى التضخم وإيجاد اليابان لمخرج من المصيدة التى بقيت بداخلها منذ بداية التسعينيات، أو ربما يؤدى إلى إظهار أفضل السبل لإدارة تحديات الاقتصاد الكلى الناجمة عن شيخوخة السكان والأتمتة، أو يمكن ببساطة اللجوء لأسواق السندات والاقتراض والإنفاق ببذخ على الاستثمار العام كما تتطلب الظروف، وربما تعانى دول أخرى من الحيرة فى مثل هذه الاستراتيجيات، ولكنها بعد فترة وجيزة ستدرك بنفسها مدى صعوبة موقف اليابان.