ظهر ما يعرف بالإصلاح الاقتصادى خلال فترة الثمانينيات من القرن الماضى لينطلق من الولايات المتحدة الأمريكية، وروج له مجموعة من الاقتصاديين على رأسهم جون وليامسون، ويتضمن مجموعة من السياسات والتوصيات والمبادئ التوجيهية التى تم التوصل إليها فيما بين أطراف 3 مركزها واشنطن وهى وزارة الخزانة بالولايات المتحدة الأمريكية وصندوق النقد الدولى والبنك الدولى، بهدف اعتبارها وصفة معيارية للإصلاح الاقتصادى للدول النامية التى تعانى من تدهور أوضاعها الاقتصادية وعرفت «بوصفة البنك الدولى»، وتم تطبيقها كمرحلة أولية لسياسات الإصلاح الاقتصادى فى دول الاتحاد السوفيتى وأوروبا الشرقية المنهارة والبلدان النامية.
وخلال تلك الفترة بدأت العديد من دول العالم فى التوجه نحو الإصلاح الاقتصادى فى إطار ما يعرف باتفاق واشنطن، وشملت مجالات الإصلاح الاقتصادى مجموعة من السياسات الإصلاحية منها تطبيق سياسات تحرير التجارة، سياسة الخصخصة للمشروعات غير الكفء، والعمل على إصلاح النظام الضريبى، وتأتى أهمية تحرير التجارة بالنسبة للدول النامية على وجه الخصوص كأداة من أجل تحسين الأداء الاقتصادى عن طريق رفع الإنتاجية من خلال تخصيص أكفأ للموارد وسهولة نقل التكنولوجيا والنفاذ إلى مدى أوسع من المدخلات وتحقيق التنافسية.
واستكمالا لنهج التوجه نحو تحقيق المزيد من التحرير للأسواق فى إطار إطلاق سياسات الإصلاح الاقتصادى، تم الإعلان عن نشأة الاتحاد الأوروبى بموقب اتفاق ماستريخت عام 1992، والتى وصل عدد الدول الأعضاء فيه حتى الآن نحو 28 دولة ضمن نطاق القارة الأوروبية، وتحقيقاً لمزيد من الحرية للتجارة فقد تم إطلاق منظمة التجارة العالمية عام 1995، والتى استهدفت ضمان انسياب التجارة بأكبر قدر من السلاسة واليسر والحرية، وهى المنظمة العالمية الوحيدة المختصة بالقوانين الدولية المعنية بالتجارة ما بين الدول.
وتضم منظمة التجارة العالمية حتى الآن نحو 164 دولة عضو، وتوطيداً لمزيد من السياسات المدعمة لحرية التجارة تم إبرام العديد من اتفاقيات التجارة الحرة الإقليمة، والتى بلغت نحو 260 اتفاقية حتى عام 2016، فمن عجزت منظمة التجارة العالمية عن تحقيقه تنجح فيه الاتفاقيات التجارية الإقليمية المدعمة لتحرير التجارة والأسواق بين مختلف الدول النامية والمتقدمة، والدافع تحقيق مصالح الدول النامية فى الوصول إلى التنمية الاقتصادية المنشودة.
لنتوغل قليلاً فى نتائج تلك التوجهات التحررية للأسواق، لنجد أن المنتفع الأكبر هى الدول المتقدمة، والدليل على ذلك أن صادرات الدول المتقدمة من المنتجات الصناعية تمثل نحو %70 من إجمالى صادرات تلك الدول إلى الدول النامية، فى حين أن صادرات الدول النامية من المواد الخام إلى الدول المتقدمة تمثل نحو %70 من إجمالى صادرات الدول النامية، وهو ما يؤكد أن المنتفع الأول من السياسات التحررية للتجارة هى الدول المتقدمة وليست الدول النامية والتى أصبحت مصدر للمواد الخام للدول المتقدمة، وسوق رائج لمنتجاتهم، وذلك على خلاف ما تم الإعلان عنه فى إطار برامج الإصلاح الاقتصادى وأهدافها نحو تحرير الأسواق، والتى غمرت الدول النامية بعدد لا بأس به من الاتفاقيات التجارية التى تضمن التحرير لأسواقها، بجميع الأشكال والصور سواء فى إطار الاتفاقيات التجارية متعددة الاطراف متمثلة فى منظمة التجارة العالمية، أو سلسلة الاتفاقيات التجارية الإقليمية على مستوى القارة الواحدة أو حتى الاتفاقيات الإقليمية عابرة القارات.
لنصل إلى توجهات تجارية عالمية جديدة تتزعمها الولايات المتحدة الأمريكية، وتتبعها الصين بردود أفعال مؤثرة بشكل كبير على معدلات النمو الاقتصادى العالمية والتجارة الدولية، من خلال ما يعرف بالحرب التجارية بين قطبى التجارة العالمية أمريكا والصين، فكل منهما تتباريان فى حذف المزايا التفضيلية لواردات الدولة الأخرى، وتفرض المزيد من القيود على عدد لا بأس به من السلع تصل إلى عدة آلاف، ومفاوضات واتفاقات للتهدئة، مع تعهدات بتحقيق المزيد من التعاون، وعلى جانب آخر نرى بريطانيا على مشارف الخروج من الاتحاد الأوروبى، والذى من المحتمل تحققه خلال الشهر الاول من عام 2020، وبخروج بريطانيا وهى الدولة الاكبر اقتصادياً فى الاتحاد الأوروبى حتماً ستؤثر على كيان الاتحاد، خاصةً أن مختلف دول العالم والتى كانت تربطها اتفاقات تجارية واستثمارية مع بريطانيا من خلال الاتحاد الأوروبى، عليها أن تفكر جدياً فى إبرام اتفاقيات مماثلة تحمل ذات الأهداف، ولكنها ثنائية دون وجود لباقى دول الاتحاد.
وفى المقابل العالمى نجد أن منظمة التجارة الدولية فى حد ذاتها تعانى من الشيخوخة، وعدم مراعاتها للتوجهات التجارية الحديثة، وظهور مستحدثات التنمية كالتوجه نحو التنمية المستدامة بين معظم دول العالم، والتجارة الإلكترونية والعملات المشفرة وغيره، لتطفو على السطح ملامح لحقبة جديدة من التعاملات التجارية، والتى تكون فى حاجة مؤكدة لآليات جديدة بخلاف آلية التحرر التجارى العالمى، ولكن دعونا نتساءل هل ستصبح السياسات الحمائية هى البديل وفقاً لتوجهات أقطاب التجارة العالمى؟ ومن الواضح أن الإجابة ستظهر مع مطلع عام 2020، والتى ظهرت بالفعل نماذجها المتوقعة من خلال التوجهات الأمريكية، لتؤكد لنا أن العالم على أعتاب سياسات تجارية بديلة للسياسات التحررية المتبعة، لتتحول التجارة العالمية إلى لعبة تضع قواعدها وأسسها الولايات المتحدة الأمريكية من جديد، وعلى باقى دول العالم أن يفطنوا لذلك ليجيدوا أساسيات اللعبة ويفوزوا بإحدى جولاتها.
د. شيماء سراج عمارة
خبير اقتصادى
[email protected]