يبدو أن مخاطر الهبوط مهيمنة على التوقعات، حيث أشار صندوق النقد الدولى فى تقريره الأخير حول آفاق الاقتصاد العالمى لعدة مصاعب على الطريق سواء كانت التوترات التجارية التى لاتزال مستمرة أو الملحمة المستمرة لقضية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى أو التحول الاقتصادى فى الصين أو المخاوف بشأن حركة تصحيحية حادة للأسوق أو قرارات البنوك المركزية أو أكوام الديون الضخمة فى مستويات تاريخية أو المخاطر الجيوسياسية المعتادة التى يمكن أن تؤدى إلى تفاقم التوقعات.
وفيما يلى نظرة على بعض الأشياء التى يجب مراقبتها، والتى يمكن أن تؤدى إلى إضعاف الاقتصاد العالمى خلال الـ12 شهراً المقبلة، على الرغم من الاتفاق المبدئى بين الولايات المتحدة والصين على صفقة تجارية فى مرحلتها الأولى، والتى أنعشت الآمال على الأقل فى هدنة بين أكبر اقتصادين فى العالم، فإن الحروب التجارية لم تنته بعد فوفقاً لما أعلنه الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، فإن البلدين على وشك التوقيع على اتفاق كمرحلة أولى من صفقة إنهاء الحرب المستعرة تجارياً بينهما.
ومن المتوقع أن تكون هذه البداية تمهيداً لوقف إطلاق نار يسهم فى معالجة تدهور العلاقات بين أكبر اقتصادين عالميين، ويشمل هذا الاتفاق الحيوى تجميد زيادة الرسوم التى كانت منتظرة على عدد من منتجات الصين بالإضافة إلى تخفيض الرسوم المفروضة فى الوقت الراهن، لكن على بكين فى المقابل تنفيذ عدد من الإصلاحات الهيكلية وعودتها إلى مستوياتها العالية من استيراد السلع الزراعية الأمريكية.
وأوقف الاتفاق رسوماً جديدة مفترضة فى منتصف الشهر الماضى بواقع 15% على سلع إضافية صينية تقدر بنحو 160 مليار دولار، كما قلصت واشنطن رسومها إلى 7.5% بدلاً من 15% على بضائع قادمة من الصين تصل قيمتها أكثر من 120 مليار دولار، لكن الولايات المتحدة أصرت على استمرار فرض رسوم تصل نسبتها 25% على منتجات صينية تقدر بنحو 250 مليار دولار حتى مع بدء تطبيق المرحلة الأولى من الإتفاق، لكن الأهم من كل هذه التفاصيل هو عدم حدوث أى تراجع عن هذه الاتفاقيات فى الأشهر المقبلة.
وحتى إذا توصلنا أخيراً إلى نوع من الهدنة التى ستشهد استعادة جزئية للأمان التجارى بين البلدين فإن معظم الرسوم الجمركية التى فرضتها إدارة ترامب على الصين وتلك التى فرضتها بكين على الولايات المتحدة فى المقابل ستبقى فى مكانها.
ويحلو لخبراء معهد “بيترسون للاقتصاد الدولى” وفقاً لتقرير مجلة “فورين بوليسى” الأمريكية إلى تسمية الأمر بـ”الوضع الطبيعى الجديد للتعريفة الجمركية المرتفعة” ما يعنى أن حوالى ثلثى الواردات الصينية إلى الولايات المتحدة وأكثر من نصف الصادرات الأمريكية إلى الصين ستبقى خاضعة للضريبة عند مستويات مرتفعة نسبياً.
ويترتب على ذلك وجود عائق مستمر بل وطبيعى للمصنعين الأمريكيين الذين يعتمدون على العديد من هذه السلع كمدخلات لمنتجاتهم النهائية، مما يضيف الألم المالى للشركات أو المستهلكين أو كليهما.
وتعتبر التوترات التجارية الأكبر بين الاقتصادات الكبرى إلى جانب نهاية قدرة منظمة التجارة العالمية على حل النزاعات بين البلدان أهم مصادر التهديد لحدوث انتكاسة واسعة للتجارة الدولية ولو نسبياً.
ولا تقتصر التوترات التجارية على القتال بين واشنطن وبكين، فمع اختتام اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية “NAFTA” الجديدة واتفاقية الهدنة الصينية التى باتت فى متناول اليد يعيد مفاوضو ترامب التجاريون نظرتهم إلى المعارك التجارية المستمرة مع أوروبا، والتى تشمل الخلافات المستمرة بشأن التعريفات الأمريكية على الحديد الصلب الأوروبى، والتعريفات الأمريكية على السلع الأوروبية بسبب نزاع شركتى تصنيع الطائرات إيرباص وبوينج، هذا مع وجود مجموعة أخرى من التعريفات الانتقامية الأوروبية فى طور الإعداد، كما أن التعريفات الأمريكية على البضائع الفرنسية تعتبر استجابة للضريبة الرقمية الفرنسية على تجارة الإنترنت المثيرة للجدل وهى ضريبة قيد النظر بجدية فى العديد من البلدان الأخرى، والتى يمكن أن تنتشر تلك المعركة التجارية إلى أبعد من ذلك.
وهناك ما هو أكثر، حيث ستخرج بريطانيا رسمياً من الإتحاد الأوروبى فى نهاية شهر يناير الجارى، لكن هذا لن يؤدى إلا إلى إطلاق نقطة انطلاق لرفع الثقل عن كاهل الاقتصاد حقاً بدون انتهاء صفقة مناسبة بالتفاوض على اتفاقية تجارة حرة بين المملكة المتحدة وأوروبا قبل نهاية العام وهو الموعد النهائى الذى يشعر المسئولون الأوروبيون، أنه يكاد يكون من المستحيل الوفاء به.
ويعد الفشل فى حل القضايا الرئيسية مثل معدلات التعريفة بين بريطانيا والقارة أو المعايير التنظيمية بين الجانبين أمراً متوقعاً وقد يؤدى إلى جرف حافة الرواج البريطانى لما أبعد من نهاية العام ومع كل ما يستلزمه ذلك من جديد فى الاستثمار والأعمال وثقة المستهلك والنمو تبدو الأمور فى غاية التعقيد.
ولجعل الأمور أكثر إثارة للاهتمام، تأمل الولايات المتحدة أيضاً فى التفاوض على اتفاق التجارة الحرة مع المملكة المتحدة العام المقبل، لكن هذا سيعنى تقريب بريطانيا من الولايات المتحدة فيما يتعلق بالتنظيم الاقتصادى، مما يجعل من الصعب للغاية بالنسبة لأمريكا إنهاء أى صفقة ذات معنى مع أوروبا الغيورة.
وفى نهاية المطاف، فإن مزيد من التوترات التجارية بين الاقتصادات الكبرى، إلى جانب نهاية قدرة منظمة التجارة العالمية على حل النزاعات بين البلاد، قد يعنى العودة إلى التجارة ذات القيود النسبية، حيث تفرض البلدان تعريفة على الواردات حسب الرغبة، ويحذر البنك الدولى من أن العودة إلى الرسوم الأعلى فى جميع المجالات يمكن أن تكون مدمرة للتجارة العالمية كما كانت الأزمة المالية العظيمة قبل عقد من الزمن.