أثار انخفاض سعر البترول فى الأسواق العالمية على مدار الأسبوعين الماضيين عقب اغتيال قاسم سليمانى، أحد كبار القادة العسكريين الإيرانيين، على يد الولايات المتحدة والرد الانتقامى للجمهورية الإسلامية عندما قامت بقصف قاعدة عسكرية أمريكية فى العراق، العديد من التساؤلات، منها ما هو متعلق بأسباب هذا الانخفاض، والذى جاء فى الواقع عكس كافة توقعات كبار المحللين الدوليين، ومنها ما يتصل بالتوجهات القادمة لأهم الخامات فى العصر الحديث، على الأقل فى المستقبل المنظور.
ويُمكننا فى تقديرى تلخيص الأسباب فى أربعة عناصر رئيسية يأتى فى مقدمتها تفشى السلالة الجديدة من فيروس “كورونا” والذى حد بدرجة كبيرة من حركة السفر ليس فقط من وإلى الصين ولكن بكافة أرجاء المعمورة بعد أن امتد بالفعل إلى خارج الحدود الصينية فى غضون أيام قليلة، مما أثر سلباً على الطلب على الخام وزاد من المعروض لتقليص شركات الطيران من مشتريات المازوت والتى تمثل حوالى 6% من إجمالى الطلب على البترول وتقدر قيمتها فى عام 2019 فقط بمبلغ 188 مليار دولار، أى ما يزيد بقليل على 15 مليار دولار شهرياً على أساس 65 دولاراً أمريكى متوسط لسعر خام برنت حسبما جاء فى أرقام منظمة الطيران العالمية IATA.
أما السبب الثانى فيتمثل فى عدم تحقيق توقعات العديد من الخبراء بأن مصادر النفط الصخرى الأمريكى ستبدأ فى النضوب التدريجى وهو ما لم يحدث ولا توجد حتى الآن دلائل جدية بأنه سيحدث عما قريب، بل على العكس من ذلك ساهم النفط الصخرى فى وصول الاحتياطيات الأمريكية القابلة للاستخراج Recoverable Oil Reserves إلى 293 مليار برميل، أى ما يزيد بمقدار حوالى 20 مليار برميل على الاحتياطيات السعودية و100 مليار برميل زيادة عن الاحتياطى الروسى وفقاً لتقرير عملاق النفط العالمى البريطانى BP.
كما تضغط بالطبع على الأسواق الهشاشة الواضحة فى اتفاقية أوبك+ لتقليص الإنتاج من أجل دعم الأسعار بالرغم من تعهد السعودية بعدم رفع سقف الإنتاج حتى لو فعلت دول أخرى ذلك.
فهناك على سبيل المثال دولة مثل نيجيريا التى تفاقم عجز الموازنة لديها ليصبح 4.52% بعد أن كانت سجلت عام 2011 فائضاً 0.38% وهى إذاً تحتاج بشدة إلى الدخل البترولى لسد جزء من هذا العجز وقد تزيد معدلات الضخ لديها فى أى لحظة.
وينطبق الأمر نفسه على العراق التى تمكنت بفضل معدلات الضخ المرتفعة من تحويل عجز 14.3% عام 2016 إلى فائض 6.2% فى عام 2018 وهى بالتأكيد لا تريد العودة إلى الوراء وهى إن شعرت بذلك ستكسر هى الأخرى اتفاقية أوبك+ دون أدنى شك بين عشية وضحاها.
أما السبب الرابع وهو السبب الرئيسى فى تقديرى الشخصى، فقد يأتى مفاجئاً لمعظم الناس حيث أراه فى تفاقم واحتدام الأزمة الأمريكية الإيرانية مؤخراً والتى ظن الغالبية أنها سترفع سعر الخام بشكل غير مسبوق وبما قد يكسر حاجز السبعون دولاراً لخام برنت القياسى.
وبالفعل بدا الأمر فى الأيام الأولى أن هذا هو ما سيحدث حيث تعدى السعر 68 دولاراً للبرميل فى بعض الأوقات فى ظل حالة عدم وضوح ما يُمكن أن يُقدم عليه الطرفان على خلفية ما ظنه الكثيرون من أن تهورهما قد يؤدى إلى حرب أقليمية واسعة النطاق فى منطقة الشرق الأوسط الغنية بالنفط.
إلا أن هذا لم يحدث كما نعلم جميعاً، بل جاء الرد الإيرانى على اغتيال سليمانى بضرب منشأة عسكرية أمريكية فى العراق شبه خالية من الجنود الأمريكيين للاستهلاك المحلى وامتصاص غضب الشارع الإيرانى أكثر منه انتقاماً حقيقياً وخرج الرئيس الأمريكى دونالد ترامب بعدها ليحدثنا عن الشعب الإيرانى العظيم ورغبة الولايات المتحدة فى الحوار مع طهران شريطة أن تتخلى عن طموحاتها النووية.
وهبطت أسعار برنت فى هذه الليلة فقط بما يزيد على الدولارين واعتقد الجميع أنها ستعود إلى منطقة ما بين 65 و66 دولاراً للبرميل كما كانت قبل اندلاع الأزمة وتوقع لم يضع فى الاعتبار اليقين الجديد لدى المتعاملين فى الأسواق الدولية أن الطرفين لن يقدما على أي أعمال عسكرية حقيقية مهما كانت الظروف لما قد يُلحق ذلك بالاثنين من أضرار جسيمة وهو ما لم يكن مؤكداً من قبل وبالتالى انخفضت الأسعار إلى أقل من مستويات ما قبل الأزمة حتى وصلت إلى أسفل 59 دولاراً لحظة كتابة هذه السطور (6% فى أسبوع واحد فقط) ومن الصعب حالياً تبين أي عناصر قد يكون من شأنها رفع الأسعار مجدداً بشكل ملحوظ، على الأقل حتى نهاية الربع الثانى من 2019.
المغامرون الثلاثة – الولايات المتحدة وإيران وأوبك – يجب عليهم إذاً إدراك حقيقة أن صحيح ما يفعلونه المحرك الرئيسى لحل لغز سعر خام برنت وتحديد اتجاهه ولكنهم فى الوقت نفسه لا يملكون فى معظم الأحيان حرية اختيار تلك الأفعال حسب الأهواء.
بقلم: محمد شيرين الهوارى
الخبير فى الاقتصاد السياسى