لم يعد خافياً على أحد ما تمر به الصحافة من أزمات وصعوبات أزالت بريق هذه المهنة العريقة.. ليس فقط تطورات الثورة التكنولوجية، وغزو الديجيتال لهذه المهنة، وكل من يعمل فى مهنة الصحافة يدرك أن الصحافة الورقية إلى زوال لا محالة، والأمر يتوقف فى تحديد نهاية الصحافة الورقية من دولة لأخرى، وفقاً لتقدمها.
ولكن واقع مهنة الصحافة اليوم، ومن بعد ثورة 25 يناير من سيئ إلى أسوأ سواء فى مناخ العمل أو آليات ومفردات هذه الصناعة التى تكاد تجف أحبارها وتتآكل تروس ماكينات الطباعة شيئاً فشيئاً.
والصحافة صناعة أو مهنة تنويرية وثقافية يقع على عاتقها، مثل الفن، تشكيل الرأى العام، وإعلامه بما يدور حوله محلياً ودولياً.. فلا يجب أن ينظر إلى الصحافة بأنها صناعة أو بزنس يدير نفسه ذاتياً، وهو مفهوم خاطئ عن الصحافة والقطاعات الإنتاجية والخدمية.. فأى صناعة من الصناعات التى تنتج سلعاً مثل الأغذية أو الملابس أو الخدمات تلقى دعماً من الدولة سواء فى أسعار الطاقة أو تقديم تمويلات وتسهيلات من البنوك.. وها هى الدولة تقف حالياً وتساند المصانع المتعثرة، ويقدم البنك المركزى مبادرات لتقويمها لتعود للإنتاج.. أما الصحافة فلا تجد اهتماماً أو دعماً سواء فى أسعار الورق أو مستلزمات الطباعة.. مع الفارق فيما تقدمه صناعة الصحافة وما تقدمه الصناعات الأخرى من سلع غذائية أو كيماوية أو غيرهما.. والمتابع لما يحدث لصناعة الصحافة يجد أنها صناعة لا تعرف إلا الخسارة حالياً.. فلم يعد هناك شغف فى الطلب عليها مع الغزو الفضائى والمواقع الإلكترونية وشبكات التواصل الاجتماعى، وهى أسلحة ظهرت بسرعة قبل أن تستعد لها دور الصحافة التقليدية؛ لأنها أمور تحتاج إلى تمويلات لتدريب وتطوير العاملين وتجهيزهم لمواكبة الثورة التكنولوجية.. وهو أمر لا تستطيع المؤسسات الصحفية القومية والخاصة القيام به وحدها فى ظل تدهور الأوضاع المالية بها.
ورغم تعدد الجهات التى تدعى الولاية الشرعية على صناعة الصحافة فإنها ليس لديها خطط أو برامج حقيقية لتطوير هذه الصناعة وإنقاذها من الانهيار، وكل جهة من هذه الجهات تكاد تقوم بذات العمل الذى تقوم به الجهات الأخرى.. خذ مثلاً المجلس الأعلى للإعلام ينظم دورات تدريبية للصحفيين وبعض الشُعب بنقابة الصحفيين تقدم هذه الدورات التدريبية أيضاً، وكلها غير ممنهجة وغير منظمة.
وحال هذه الهيئات ليس أفضل من حال المؤسسات إلا ما تحصل عليه هذه الهيئات من موازنات خاصة بالملايين لا تعرف فيما تنفق إلا على سفر قياداتها فى مهام لا علاقة لها بعمل هذه الهيئات.. كل هذه الهيئات تدرك حجم المشاكل التى تواجه صناعة الصحافة، ولكن الكل يدور حول هذه المشاكل دون التطرق إليها لإيجاد حلول.. هل فكر أحد فى مطالبة الحكومة بدعم صناعة الورق للمؤسسات الصحفية العامة والخاصة؟ أو إعفاء هذه المؤسسات من مديونيات التأمينات الاجتماعية أو الضرائب حتى ولو عن سنوات ما بعد ثورة 25 يناير والتى شهدت تدهوراً كبيراً فى إيرادات المؤسسات الصحفية؛ بسبب تراجع أداء سوق الإعلانات وتضاؤل حصة المؤسسات الصحفية وتحديداً الخاصة بسبب سياسات التضييق عليها، واحتكار بعض الوكالات للإعلانات.
ألا يحتاج الأمر من نقابة الصحفيين إلى نظرة أكثر عمقاً لحال المهنة؟ أو أن ينفذ النقيب د. ضياء رشوان وعده بعقد مؤتمر لمناقشة أوضاع الصحافة وإيجاد حلول لمشاكلها؟ أم أنه سيظل مهموماً بخلافات مجلسه وانشغال بعض أعضائه بالبحث عن مناصب أو الجرى وراء مناصب فى مؤسسات الحكومة.. هل ستقف النقابة موقف المتفرج وكل يوم تغلق صحيفة ويشرد أعضاؤها؟
وهل قال نقيب الصحفيين لرئيس الوزراء حينما اجتمع مع الهيئة الوطنية للصحافة ورؤساء الصحف القومية إن هناك صحفا خاصة فى حاجة لدعم ومساندة الدولة أيضاً؟ وهذه الصحف التى يعمل بها أعداد كبيرة من الصحفيين والإداريين، بعضها يؤدى أداء أفضل كثيراً من مؤسسات تستنزف خزينة الدولة بلا جدوى مما تقدمه وتنتجه.
إننى لا أستطيع أن أقدم حلولاً لإنقاذ صناعة الصحافة، ولكن أرى إن كان هناك اهتمام بإعادة صياغة السياسة الإعلامية فلابد من إعادة ترتيب البيت من الداخل.. بأن يتم تنظيم مهنة الصحافة بقوانين وتشريعات وتطوير وتدريب الصحفيين لصياغة محتوى أكثر تطوراً ومعبر عن الاحتياجات الحقيقية للقارئ أو المتلقى ودعم ومساندة المؤسسات الصحفية التى تقدم رسالة إعلامية ذات مصداقية سواء كانت هذه المؤسسات عامة أو خاصة والنظر إلى أن صناعة الصحف لا يجب أن ينظر إليها مثل باقى الصناعات فهى صناعة غير مربحة، ولكن لا غنى لأى مجتمع عنها.. فأكبر الصحف فى العالم تقف وراءها الدول وتدعمها.