أتذكر فى هذه الأيام كثيراً أحداث يوم 28 يناير 2011 عندما وجهت الدولة نداءً إلى عموم الناس لمطالبتهم بالنزول إلى الشارع أمام البيوت وتشكيل لجان دفاع شعبى لحماية منازلهم من هجمات مُحتملة لبلطجية قيل وقتها أنهم سيطروا على أجزاء كبيرة من المدن، ولا يمكننى نسيان الاستجابة الواسعة التى لقاها هذا النداء ووقوف الناس العادية على النواصى ومداخل الأحياء حتى لا يتعرض أحد لممتلكاتهم وأموالهم وعائلاتهم.
أتذكر ذلك الآن، لأنه لم يعد يمر يوم تقريباً على المتابع للشأن الاقتصادى إلا ويقرأ خبراً عن إحدى المجالس التصديرية أو شعبة من شعاب الغرف التجارية والصناعية أو جمعيات رجال الأعمال من مصانع الحديد عبوراً بمُنتجى الملابس ووصولاً إلى مصانع الورق وهى توجه النداءات إلى الحكومة والاستغاثات إلى رئيس الجمهورية نفسه، مطالبين بحماية صناعاتهم من خلال تقييد استيراد المُنتج الأجنبى المماثل لمنتجاتهم أو تحميله بضرائب إضافية أو فرض رسوم إغراق عليه لا يكون لها فى معظم الأحوال أى مبرر موضوعى سوى أن هؤلاء يقولون أن صناعاتهم تتضرر وأنهم يتكبدون خسائر فادحة بسبب منافسة البضائع المستوردة.
ولست هنا بصدد مناقشة صحة هذه الادعاءات من كذبها لأنى لست مُطلعاً على ميزانيات هذه الشركات ولا أعرف بالتالى هل هى تضررت بالفعل أم لا وإن كنت أرجح بدرجة كبيرة صدقها فيما تقول بمجرد النظر إلى أرقام طاقة الإنتاج المحلى لسلعة ما وقدر الاستهلاك له والإنتاج المحلى الفعلى منه ونسب استيراده.
ومن ثم أتفهم من منظور مُعين تشكيلهم للجان دفاع شعبى، إن جاز التعبير المجازى فى هذا الموضع، لحماية أرزاقهم وقوت يوم عمالهم، إلا أن هذا الوضع يطرح أيضاً أسئلة عديدة مهمة تتصل بالبنية الأساسية للاقتصاد المصرى والفلسفة العامة الكامنة خلفه ومدى اتساقها مع الواقع العملى.
أليس هؤلاء هم أنفسهم من يملأون الدنيا ضجيجاً وصراخاً كل يوم مطالبين بالسوق الحر وتصفية القطاع العام وأبعاد يد الدولة عن العملية الاقتصادية وبيئة الأعمال إلا على سبيل التنظيم والتشريع؟ كيف لهم إذن فى ذات الوقت المناداة بتدخل الدولة بمثل هذا الشكل الفج؟ أليس فى هذا تناقض منطقى صارخ؟
صحيح أننا نرى حتى الولايات المتحدة وهى تفعل شيئاً شبيهاً بذلك مؤخراً، ولكن نهج واشنطن الحالى مدفوع سياسياً برغبة ترامب فى إعادة صياغة العلاقات الأمريكية مع باقى العالم وتقديم نفسه على أنه البطل الشعبى المغوار قبيل 9 أشهر فقط من انتخابات الرئاسة التى ينتوى الترشح بها مجدداً ولم تكن هناك على حد علمى أى أصوات عالية فى مجتمع الأعمال الأمريكى تنطق بمثل تلك المطالب، بل أبدى البعض تخوفهم من أن تدخل الدولة بهذا الشكل وإن كان يصب فى صالحهم اليوم، إلا أنه قد يفتح الباب أمام تدخلات مستقبلية قد تضر أكثر مما تفيد، هذا بعيداً حتى عن التناقض المنهجى مع بنية الاقتصاد الأمريكى نفسه وعن حقيقة أن هناك بعض الشركات الأمريكية التى تضررت من جراء سياسات ترامب بالفعل.
أما الحالة المصرية، فهى لا تحتوى على مثل تلك الدوافع والعناصر السياسية ومن ثم تأتى تلك المطالبات فقط لتلبية رغبات مجموعة من رجال الأعمال وأصحاب المصالح الخاصة دون أن يكون فى ذلك إفادة واسعة النطاق للاقتصاد القومى لأن العديد من هؤلاء يقومون أصلاً باستيراد المواد الخام ثم يتم تحويلها لمنتجات تامة الصنع. فنحن مثلاً لا نملك سوى بضعة مصانع حديد من ذات الدورة الكاملة وخامات الأخشاب التى تُستخدم لإنتاج الورق مستوردة بنسبة تفوق الــ 90% وحتى الملابس والأقمشة أصبح تستورد لها الأقطان من دول أسيوية مختلفة على رأسهم ماليزيا.
وبالتالى يكون من الأجدى لهؤلاء بدلاً من استدعاء الدولة أو المطالبة بتشكيل لجان الدفاع الشعبى أمام المنازل والتمترس على مداخل الشوارع أن ينفذوا لأصل المشكلة ومحاولة الإجابة على السؤال الصعب، ألا وهو “من أين يأتون هؤلاء البلطجية أساساً وكيف يمكن منعهم أصلاً؟”
ظنى الشخصى، أن الإجابة على هذا السؤال بسيطة للغاية حيث يُمكن لصاحب مصنع الملابس أن يساهم بفعالية أو على الأقل يدعم زراعة القطن المناسب لماكيناته وللمُنتج المستهدف حتى يتمكن من بيع السلعة النهائية بسعر منافس للمُنتج المثيل المستورد.
ويُمكن لصاحب مصنع الورق أن يتحول إلى نشاط آخر لأن أبسط مبادئ الصناعة تقول أنه ليس بمنطقى أن تنشئ مصنع لمُنتج لا تتوافر خاماته محلياً، ويُمكن لأصحاب مصانع الحديد الصغيرة أن تنشئ فيما بينها كيانات أكبر قادرة على توفير التمويل اللازم لإنشاء مصانع من ذات الدورة المتكاملة، ويُمكن لأصحاب مصانع كثيرة أخرى أن يدرسوا الأسواق دراسة وافية أولاً لمعرفة حقيقة العرض والطلب بها.
أيها السادة: ساعدوا أنفسكم بأنفسكم بدلاً من الصراخ والعويل، هذا إن كنتم حقاً تريدون سوق حرة مفتوحة يكون القطاع الخاص هو محورها وضابط إيقاعها.
بقلم: محمد شيرين الهوارى
الخبير فى الاقتصاد السياسى