يعهد إلى الولايات المتحدة الأمريكية، أنها تلعب الدور المحورى فى استحداث وإعادة تشكيل النظام التجارى العالمى، فهى أول الداعين إلى أن يتجه العالم إلى التحرير وتشجيع عقد الاتفاقيات التجارية، وذلك فى إطار ما عرف بسياسات الإصلاح الاقتصادى، ليتم تدعيم التوجهات الإصلاحية وتحرير التجارة العالمية بقوة دفع غير معهودة من الدول المتقدمة، ليستندوا إلى أن تحرير تجارة الدول النامية وإزالتها لجميع العوائق الجمركية، سيهدف إلى تحسين الأداء الاقتصادى عن طريق رفع الإنتاجية والتخصيص الأكفأ للموارد وسهولة انتقال كل من الاستثمارات الأجنبية والمواطنين، وتشجيع نقل التكنولوجيا والنفاذ إلى مدى أوسع من المدخلات من المواد الخام المدعمة للصناعة، والوصول إلى التنافسية.
ليسير الاتحاد الأوروبى على ذات الدرب بالإعلان عن الاتحاد الأوروبى، ومن ثم تشجيع التكتلات الإقليمية من خلال إبرام العديد من اتفاقيات التجارة الحرة الإقليمية، والتى بلغت نحو 260 اتفاقية حتى عام 2016، ثم ما لبث أن يتم توسيع نطاق التوجهات التحررية للاقتصاد العالمى، بإطلاق منظمة التجارة العالمية، والتى استهدفت ضمان انسياب التجارة بأكبر قدر من السلاسة واليسر والحرية، لتضم فى عضويتها نحو 164 دولة عضو، والدافع أيضاً تحقيق مصالح الدول النامية فى الوصول إلى التنمية الاقتصادية المنشودة.
لتحقق الدول المتقدمة مكاسب كبيرة نتيجة التوجهات التحررية للتجارة، على عكس ما تم الإعلان عنه وهو أن الهدف هو مساعدة الدول النامية، وتشجيعها على تحقيق المكاسب التجارية، وتحسين أوضاعها التنموية الاقتصادية، لتتحول الدول النامية إلى مصدر رئيسى للمواد الخام إلى الدول المتقدمة، وفى ذات الوقت سوق رائج لمنتجاتهم، بعد أن تم إحاطة الدول النامية بعدد لا بأس به من الاتفاقيات التجارية التى تضمن التحرير لأسواقها، بجميع الأشكال والصور سواء فى إطار الاتفاقيات التجارية متعددة الأطراف متمثلة فى منظمة التجارة العالمية، أو سلسلة الاتفاقيات التجارية الإقليمية على مستوى القارة الواحدة أو حتى الاتفاقيات الإقليمية عابرة القارات.
لنفاجأ بتوجهات تجارية جديدة تطلق شرارتها أيضاً الولايات المتحدة، ولكن تلك المرة هى سياسات مضادة للسياسات التحررية، ليتم استهداف العودة إلى الحمائية التجارية، ليحظى الرئيس الامريكى ترامب فى إطار توجهاته الجديدة بلقب «رجل التعريفة الجمركية»، نظراً لتوسعه فى فرض الرسوم الجمركية بدافع حماية الصناعة الأمريكية، لتقابل الصين توجهاته بفرض التعريفات الجمركية على السلع والمنتجات الأمريكية، وتستكمل أمريكا تلك التوجهات الحمائية بالانسحاب من العديد من الاتفاقيات التجارية ومنها من هو مرتبط باتفاقيات تم إبرامها فى إطار منظمة التجارة العالمية مثل اتفاقية المشتريات الحكومية.
لتضع بريطانيا لمساتها السحرية على منظومة التجارة العالمية بالانفصال عن الاتحاد الأوروبى، بعد قرابة الـ50 عاماً من انضمامها إلى هذا التكتل، وهو الامر الذى سيؤثر حتماً على كيان الاتحاد وقوته المستقبلية، ليتبع الاتحاد الأوروبى توجهات تجارية بنكهة جديدة تتماشى مع روح العصر الداعية إلى التنمية المستدامة وحماية البيئة، بإطلاقه قواعد جديدة تعرف باسم الصفقات الخضراء والاقتصاد الأزرق.
فمن خلال تلك الوثائق يدعو الاتحاد الأوروبى إلى أن تتبع جميع المعاملات التجارية والصناعية والاستثمارية مع جميع الدول معايير السلامة البيئية، إضافة إلى ما يتم نقله أو تداوله من خلال البحار والمحيطات، فلا أحد يمكنه معارضة تطبيق معايير التنمية المستدامة أو التوجه نحو الاقتصاد الأخضر، إلا أنه بالتمعن فيما بين السطور، نستطيع أن نستشف أنها ستؤثر حتماً بالسلب على جميع المنتجات والتعاملات التجارية الدولية التى لن تتمكن من الوصول إلى المعايير البيئية المطلوبة، وهو الأمر الذى سيؤدى حتماً إلى المزيد من القرارات التقييدية.
وعلى ذات المنوال جاء فيروس كورونا ليعزف على أوتار تدعيم الحد من حرية الانتقال بجميع أشكاله، والمتمثلة فى صعوبة انتقال الاستثمارات، ومن ثم التأثير السلبى على قطاعى الصناعة والسياحة، نتيجة فرض القيود الإجبارية على الانتقال البشرى بين عدد من الدول، والتخوف من فكرة السفر فى حد ذاتها، وما سيتبع ذلك من سياسات تقييدية لحركة التجارة، لتظهر الدول التى بها إصابات أو المهددة بوجود إصابات، وكأنها بمعزل عن باقى دول العالم، ليلوح فى الأفق موجات انكماشية عالمية، لتبدو لنا الكورونا وكأنها الأداة التى تعجل من إعادة تشكيل المشهد الاقتصادى العالمى، بتدعيمها للتوجهات الحمائية الدولية.
وفى ظل جميع تلك التوجهات الحمائية وانهيار أسواق المال وأسعار النفط المصاحبة للركود العالمى يطفو على السطح الاقتصادي تساؤل هام، وهو هل ستتجه دول العالم إلى محاولة تعويض حالة الركود العالمى المفروضة، بتعزيز أكبر للسياسات الحمائية والتوسع فى الأسواق المحلية وتحفيز الاستهلاك والاستثمار المحليين، وهو ما ستجيب عنه الأيام القادمة.
د. شيماء سراج عمارة
خبير اقتصادى
[email protected]