«سيتى جروب» يتوقع شراء «الفيدرالى» والمركزى الأوروبى واليابانى سندات بـ5 تريليونات دولار
حتى فى خضم الأزمة المالية العالمية 2008، استمر البهلوانيون فى شركة الترفيه الكندية «سيرك دو سوليه» فى العمل، إذ قدم السيرك الكندى مزيداً من العروض المتألقة، رغم أن الشركات الأخرى فرضت قيوداً مالية أو دُمرت تماماً.
ولكن أزمة جائحة فيروس كورونا، أثبتت أنها سرداب عميق للغاية.
فقد اضطر «سيرك دو سوليه» إلى إلغاء جميع العروض وتسريح 95% من موظفيه الشهر الماضى، ثم تخلف عن سداد 900 مليون دولار من ديونه- عالية الخطورة- وذلك قبل نحو أسبوعين، ليصبح بذلك صانع الترفيه أحدث ضحية لفيروس كورونا.
وقال «سيرك دو سوليه»، فى بيان: «كان الأمر مفاجئاً وفرض ضغطاً شديداً على الشركة التى نعمل بجد لإدارتها».
ومن المؤكد أن شركة الترفيه الكندية ليست الوحيدة التى عانت من انتشار «كوفيد- 19». فما بدأ كأزمة صحية تحول إلى أزمة اقتصادية هائلة، إذ تتوقع مؤسسة «مورجان ستانلى» الأمريكية أن يشهد عام 2020 أعمق ركود عالمى منذ الكساد الكبير.
ورغم التعافى الأخير للسوق، لا يزال بعض المستثمرين والمحللين يخشون أن تؤدى الأزمة المالية إلى تفاقم الضرر الاقتصادى.
وقال مدير قسم أسواق النقد والمال فى صندوق النقد الدولى، توبياس أدريان، إنّ الأزمة الراهنة تعتبر أزمة صحية فى الأساس. ولكن انتشارها بشكل كبير تسبب فى أزمة اقتصادية، يمكن أن تتحول بدورها إلى أزمة مالية.
وإذا حدث ذلك، فمن المحتمل أن تكون نوعاً مختلفاً تماماً من الأزمات المالية عن تلك التى شهدها العالم قبل 12 عاماً.
القطاع المصرفى
وأفادت صحيفة «فاينانشيال تايمز» البريطانية، بأن القطاع المصرفى، يبدو اليوم جيداً إلى حد كبير، بعد الجهود المبذولة لضمان عدم تكرار حزمة الإنقاذ الاقتصادى لعام 2008 مرة أخرى. فقد تباينت الإجراءات المتخذة من بلد إلى آخر، ولكن جميع البنوك تعرضت لمتطلبات رأسمالية أكثر صرامة.
ومع ذلك، لا تزال نقاط الضعف فى النظام المالى موجودة، ولكن فى مكان آخر وفى شكل مختلف.
ويحذر المسئولون والمحللون والمستثمرون السابقون، من أن المخاطر بدت وكأنها انتقلت من البنوك إلى قطاع الاستثمار مترامى الأطراف ومتعدد الأوجه، والذى نما بشكل هائل خلال العقد الماضى. ويأتى ذلك جزئياً من خلال الدخول إلى الفجوة التى خلفتها البنوك.
وبصفته نائب رئيس البنك المركزى الأوروى، فى ذروة أزمة منطقة اليورو، شهد فيتور كونستانسيو ترنح العديد من البنوك فى المنطقة على حافة الهاوية. ولكنه يعتقد الآن أن هذا التحول يظهر كيف أن الإصلاح الشامل الذى نتج من أزمة 2008 كان نصف المهمة فقط.
وقال «كونستانسيو»: «نمت المخاطر بشكل كبير خلال العقد الماضى. لذا نحن بحاجة إلى إعادة التفكير فى تنظيم الجزء غير المصرفى فى النظام المالى؛ لأنه قد يتسبب فى تضخم ما يمكن أن يصبح أزمة مالية كاملة».
وذكرت الصحيفة، أنَّ الأزمات المالية ليست مجرد ركود اقتصادى أو حتى مرادف لانهيار الأسواق، فقد سجلت بداية الثمانينيات ركوداً عالمياً مؤلماً؛ بسبب رفع البنك الاحتياطى الفيدرالى لأسعار الفائدة بشكل كبير. ولكن خارج حدود العالم النامى، الذى يقترض بشكل كبير بالدولار، لم تكن هناك أى أزمة مالية. كما أن سوق الأسهم العالمية لم يخسر نصف قيمته تقريباً فى مطلع الألفية الثالثة، عند انفجار فقاعة الإنترنت.
فى الواقع، تتميز الأزمات المالية بعدم الاستقرار الشديد فى السوق وانهيار المؤسسات المالية، وانتشار حالات التعثر فى سداد الديون والإفلاس الحكومى، ما يؤدى لانهيار أداء النظام المالى نفسه، وبالتالى تدهور العوامل الأساسية.
وساهمت الإجراءات التى اتخذتها البنوك المركزية وحزم الإنفاق الحكومية فى دعم الأسواق بعد عدم الاستقرار الكبير فى مارس، إذ تراجعت الأسهم العالمية فى أسرع سوق هابطة فى التاريخ. كما أن الآمال المتزايدة تجاه إمكانية احتواء الوباء أثارت موجة صعودية صعبة، ومع ذلك ربما تكون الهزات الارتدادية حادة ومضاعفة.
وقال كبير المديرين التنفيذيين فى مجموعة «جولدمان ساكس أسيت مانجمينت»، آشيش شاه: «تُظهر هذه الأزمة إيجابيات وسلبيات كل الأمور التى فعلناها بعد الأزمة الأخيرة؛ فقد شهد عام 2008 أزمة مصرفية، ولكن هذه الأزمة كانت أزمة أسواق رأس المال».
ووفقاً لما قاله مجلس الاستقرار المالى، كان القطاع المالى غير المصرفى، الذى يتراوح بين صناديق التقاعد التقليدية وصناديق الاستثمار المشتركة للصناعات التنافسية مثل صناديق التحوط والأسهم الخاصة، يسيطر على أصول بقيمة 98 تريليون دولار تقريباً فى ذروة الأزمة الأخيرة عام 2008، ما يجعل هذا القطاع أصغر قليلاً من الصناعة المصرفية العالمية.
ولكن الآن تجاوزت قيمة هذا القطاع حاجز الـ180 تريليون دولار، وهو أعلى بخمس مرات تقريباً من إجمالى الأصول المصرفية. ويرجع الفضل فى ذلك إلى السوق الصاعدة المسجلة فى العقد الماضى، والتعدى المطرد على أجزاء من النظام المالى التى كانت فى السابق محفظة للبنوك.
ويتكون أغلب القطاع من أنشطة حيوية ولكنها رتيبة إلى حد ما. ويستثمر القطاع فى الأسهم والسندات نيابة عن الجميع، بداية من صناديق الثروة السيادية إلى مستثمرى القطاع الخاص. ولكن فى بعض النواحى، يشبه هذا ما تفعله البنوك، إذ تأخذ الأموال التى يمكن سحبها فى وقت قصير ووضعها فى استثمارات طويلة الأجل.
كان هذا عاملاً فى الأزمة المالية الأخيرة أيضاً، ما دفع بعض الخبراء إلى وصف تلك البنوك بـ«بنوك الظل» والتحذير من أنها تشكل خطراً على الاستقرار المالى، ولكن هذا المصطلح الازدرائى قد حُظر بشكل نسبى؛ حيث يفضل المنظمون الآن التحدث عن التمويل القائم على الأسواق، ومع ذلك لم يسهم تغيير الأسماء فى تغير الهشاشة الكامنة فى تلك الصناعة.
وفى أعقاب عام 2008، عزز المنظمون بعض المجالات، مثل صناديق سوق المال، التى تستثمر فى أدوات الدين قصيرة الأجل المشابهة للنقدية، والصكوك، والمشتقات.
وقال ريتشارد بيرنر، أستاذ التمويل فى جامعة نيويورك، الرئيس السابق لمكتب الخزانة الأمريكية للبحوث المالية، الذى تم إنشاؤه لرصد المخاطر الشاملة بعد عام 2008: «اتخذنا كثيراً من الخطوات لتعزيز البنوك، وهذا أمر جيد، ولكننا قمنا بجهد أقل بكثير خارج النظام المصرفى»، موضحاً أن بعض الأنشطة تتجه ببساطة إلى كيانات أقل تنظيماً.
أدوات الدين
وقالت صحيفة «فاينانشيال تايمز»، إنَّ الوضع الكلاسيكى يتمثل فى كيفية قيام سوق السندات بشكل متزايد بإقراض الشركات، بدلاً من البنوك، خاصة بالنسبة للشركات الكبيرة.
وأوضحت بيانات بنك التسويات الدولية، أن السندات تمثل الآن أكثر من نصف الديون العالمية بأكملها، ولكن مع بقاء أسعار الفائدة منخفضة على مدار عقد، تكدس المستثمرون على العديد من أركان الأسواق الأكثر خطورة والاستراتيجيات الأكثر جاذبية للتمتع بعوائد أكبر.
وكان الاندفاع لشراء الديون دون الدرجة الاستثمارية- ذات العائد المرتفع- قوياً بشكل خاص. فعلى سبيل المثال تعتبر ديون شركة «سيرك دو سوليه» فى الغالب قروضاً أقل تصنيفاً.
وقدر بنك «يو. بى. إس» نمو سوق القروض الأمريكية وحده بنسبة 76% ليصل إلى أكثر من 1.3 تريليون دولار فى العقد الماضى، إذ يتم شراء معظم هذه الديون الخطرة من خلال ما يسمى التزامات القروض المضمونة، وهو نوع من الأدوات الاستثمارية ذات الشعبية.
لكن الديون ذات التصنيف الأقل يتم تداولها بشكل غير منتظم فى بعض الأحيان حتى فى الأسواق الهادئة، ففى أوقات الشدة يمكن لنوبات البيع دفع الأسعار إلى الانخفاض أو التسبب فى تجميد التداول تماماً.
وتكمن المشكلة فى أن العديد من الصناديق تتيح للمستثمرين فرصة سحب أموالهم كلما أرادوا ذلك، ما يرفع احتمالات الخضوع لحالات شبيهة بالعمليات المصرفية؛ حيث يندفع المستثمرون المتوترون للخروج، ما يجبر الصناديق على التخلص من أصولها فى عمليات بيع الأصول بأقل من قيمتها.. وبالتالى دفع الأسعار إلى النمو بشكل أقل ورفع التدفقات الخارجة.
وفى الوقت نفسه، حفزت اللوائح الأكثر صرامة العديد من البنوك على خفض الأموال المخصصة للعمل كوسيط فى السوق.
وقال المستثمرون، إنَّ ظروف التداول المتدهورة كانت ملحوظة بشكل خاص فى مارس، حتى إن سوق الخزانة الأمريكية عانى انخفاضاً فى السيولة.
ولكن الرئيس السابق للاحتياطى الفيدرالى فى نيويورك، بيل دادلى، جادل بأن القضية الأساسية تدور حول ما إذا كان يتعين على الصناديق المشتركة التقليدية السماح بسحب المستثمرين لأموالهم بشكل يومى، قائلاً: «وجهة نظرى لا، وهذا شىء يجب النظر فيه».
وتعتقد الرئيس التنفيذى لشركة «ستاندرد لايف أبردين»، كيث سكيوتش، أنَّ النتيجة أصبحت واضحة بشكل صارخ فى الفوضى السوقية التى سببها وباء كورونا. فقد أخذت المخاطر من البنوك، ولكنها أصابت مؤسسات مالية أخرى، مضيفة: «كان هناك حافز للمستثمرين للاستفادة من العائد والبحث عنه.. لم تكن النتائج غير المقصودة مرئية على الفور، ولكنها أصبحت واضحة الآن».
وأشارت الصحيفة، إلى أن الاستجابة القوية غير العادية من البنوك المركزية ساهمت فى تهدئة الكثير، إن لم يكن الجميع، بعد الضغوط المالية العديدة التى ظهرت مارس الماضى.
ووفقاً لبيانات «سيتى جروب»، من المرجح قيام «الاحتياطى الفيدرالى» والبنك المركزى الأوروبى وبنك اليابان وبنك إنجلترا بشراء 5 تريليونات دولار من السندات هذا العام، وهو ما يزيد بمرتين ونصف المرة على ما تم شراؤه خلال ذروة الأزمة المالية العالمية.
ويختلف نموذج الأعمال الأساسى لقطاع الاستثمار بشكل كبير عن القطاع المصرفى. فمديرو الأصول ذوو وضع جيد ولكنهم يستخدمون القليل من النفوذ، كما أن الخسائر تصيب المستثمرين فى الصناديق الفردية، وليس مديرى الأصول أنفسهم. وحتى فى السيناريوهات المستبعدة، مثل خسارة أحد عمالقة الصناعة، لا ينبغى اللجوء للإنقاذ الحكومى.
وقال الرئيس التنفيذى لشركة «أبريتشر إنفيستورز»، بيتر كراوس، إنه رغم أن الخسائر قد تكون مؤلمة، فإنه من الصعب تصور هذا التحول إلى أزمة مالية كلاسيكية، مشيراً إلى أن الأمر قد يمتد إلى عدد أكبر من المستثمرين وقاعدة رأسمالية أكبر، وبالتالى سيكون التأثير أكثر قابلية للإدارة.
وأضاف: «لا أعتقد أن إدارة الأصول تشكل مخاطر نظامية بالطريقة التى فعلتها البنوك فى عام 2008».
وأوضحت «فاينانشيال تايمز»، أنه مهما حدث مع الأسواق على المدى القصير، فإنَّ الفوضى الأخيرة ستركز الاهتمام التنظيمى على الجوانب غير المصرفية للنظام المالى.