منذ ظهور أولي حالات الإصابة بكوفيد-19 في مصر في فبراير 2020 وقد توالت الإجراءات الرسمية المتخذة من قبل مجلس الوزراء لمواجهة تلك الجائحة والحد من انتشارها من ناحية، وللحفاظ على حياة المواطنين من ناحية أخرى.
كان أهم تلك الإجراءات الرسمية: قرار رئيس مجلس رقم 717 لسنة 2020 بشأن تعليق الدراسة في جميع المدارس والجامعات، والقرار رقم 719 لسنة 2020 بشأن التدابير الاحترازية المتخذة بوحدات الجهاز الإداري للدولة وشركات القطاع العام وشركات قطاع الأعمال العام، كذا القرارات المتعاقبة بشأن تحديد مواعيد غلق المحال والمنشآت التجارية والأندية وذلك بهدف الحد من حركة المواطنين وتقليل التزاحم لمواجهة انتشار الفيروس في جمهورية مصر العربية.
وقد كان لتلك القرارات الرسمية – سالفة الذكر وما استتبعها من إجراءات تنفيذية متلاحقة- أثر على النظام القضائي في مصر وبالأخص إجراءات ومواعيد التقاضي، فقد أعلن وزير العدل المستشار عمر مروان توجيه جميع المحاكم الابتدائية والاستئنافية لإعلان تأجيل نظر جميع الجلسات تأجيلا إداريا ابتداء من 4 أبريل ولمدة أسبوعين وذلك في إطار الخطة التي تنتهجها الدولة في مواجهة فيروس كورونا المستجد حفاظاً على صحة وسلامة المواطنين قضاة ومتقاضين.
وبناء عليه، فقد أصدر مجلس الدولة القرار رقم 206 لسنة 2020 بشأن تأجيل جميع جلسات المحاكم والمفوضين إدارياً بجميع المقرات على مستوى الجمهورية.
وقد تم مد العمل بهذا القرار والذي كان من المقرر انتهاؤه في 15 أبريل -وذلك بعد صدور القرار رقم 252 لسنة 2020 – إلى 23 أبريل ثم مرة أخرى إلى 14 من مايو المقبل تماشيا مع قرار مجلس الوزراء بتمديد فترة حظر حركة المواطنين إلى تاريخه، هذا من ناحية جهة القضاء الإداري.
“يجب التنويه إلى أن استمرار العمل الإداري بالمحاكم له أثر قانوني هام: وهو استمرار مواعيد المرافعات في السريان دون أن يعتريها انقطاع أو وقف”
أما فيما يتعلق بالقضاء العادي فقد قررت محكمة النقض، واتساقاً مع قرارات رئيس مجلس الوزراء، تأجيل جميع الجلسات وحتى 14 من مايو مع استمرار العمل إدارياً وهو النهج الذي انتهجته المحاكم الابتدائية والاستئنافية على مستوى الجمهورية.
كما صدر قرار يوم الخميس الموافق 23 من أبريل وتم تعميمه على رؤساء المحاكم الابتدائية بالسماح بانعقاد جلسات إصدار إعلامات الوراثة فقط مع استمرار تلك المحاكم وجزئياتها في تأجيل نظر الدعاوى وذلك اتساقاً مع قرارات رئيس مجلس الوزراء الصادرة في هذا الشأن.
وتجدر الإشارة إلى أن القرارات التي اتخذتها السلطة القضائية المتمثلة في رؤساء المحاكم باختلاف درجاتها لا يمكن اعتبارها قرارات بتعليق العمل وإنما هي فقط قرارات بتأجيل الجلسات ونظر الدعاوى، لما في ذلك من أثر بالغ على تقليل تردد المواطنين بشكل كبير على مقار المحاكم وما يستتبعه من تقليل التزاحم.
أما فيما يتعلق بالأعمال الإدارية بالمحاكم؛ فلا تزال مستمرة مع تخفيض عدد الموظفين العاملين بها وتقسيم مواعيد حضورهم وانصرافهم إلى موعدين.
وفي هذا الصدد يجب التنويه إلى أن استمرار العمل الإداري بالمحاكم له أثر قانوني هام: وهو استمرار مواعيد المرافعات في السريان دون أن يعتريها انقطاع أو وقف.
فالقرارات سالفة الذكر أثرت فقط على استمرار انعقاد الجلسات، أما قلم الكتاب وقلم المحضرين فالعمل بهما مستمر.
وبناء عليه يمكن للمتقاضين القيام بسائر إجراءات التقاضي في مواعيدها من إيداع صحف الدعاوى من ناحية والطعن بالاستئناف أو النقض من ناحية أخرى دون أي وقف في المواعيد السارية.
وفي هذا الصدد، يتعين التنويه إلى مسألة تهم المتقاضين والمتخصصين على حد سواء: وهي مدي اعتبار جائحة الكوفيد-19 من قبيل القوة القاهرة في مجال التقاضي من عدمه.
وقد تبدو أهمية هذا التساؤل جلية بارزة وذلك لسببين:
أولهما أن قضاء محكمة النقض المصرية كان قد استقر على “أنه يترتب على عدم مراعاة مواعيد الطعن في الأحكام سقوط الحق في الطعن وتقضي المحكمة بالسقوط من تلقاء نفسها ما لم يقف سريان هذا الميعاد بتحقق قوة قاهرة أو حادث مفاجئ أثناءه”.
وثانيهما، أنه إذا كانت الإجابة على هذا التساؤل بالإيجاب، فإنه يترتب على ذلك وقف جميع مواعيد المرافعات التي كانت قد بدأت في السريان منذ قرار تعليق الجلسات بالمحاكم على أن يستأنف سريانها مع استئناف سريان العمل مرة أخرى.
وللإجابة على التساؤل المطروح أعلاه نجد أن القانون المدني المصري كان قد فرق بين نظريتي القوة القاهرة من ناحية والحوادث الطارئة من ناحية أخرى فيما يتعلق بالالتزامات العقدية: فالقوة القاهرة والتي تفترض وجود حدث غير متوقع ولا يمكن تفاديه وخارج عن إرادة المتعاقد ومن شأنه جعل تنفيذ الالتزام مستحيلا تعطي للقاضي الحق في إعفاء المدين كلية من الوفاء بالتزامه.
أما الحوادث الطارئة، فهي تشترك مع النظرية الأولى في الشروط ولكن تختلف في الأثر حيث تجعل تنفيذ الالتزام مرهقا وليس مستحيلا مما يسمح للقاضي بتخفيف أو تعديل الالتزام درءًا للضرر الواقع على المدين.
“كان من الأحرى أن يصدر قرار وزاري بوقف سريان جميع المواعيد على أن يستأنف سريانها بعد انتهاء حالة الطوارئ الصحية”
أما على صعيد إجراءات التقاضي، ووفقا لنصوص قانون المرافعات المصري وما استقر عليه قضاء محكمة النقض في تفسير تلك النصوص، فقد يرى البعض بأن جائحة الكوفيد-19 لا يمكن اصباغها وصف القوة القاهرة حيث لم يتم تعليق العمل كلية بالمحاكم وإنما تقرر تعليق الجلسات فقط مع استمرار كافة الأعمال الإدارية.
وبناء على ذلك، ووفقاً ذلك الرأي الفقهي وفيما يتعلق بمواعيد التقاضي؛ يصبح لا أثر للكوفيد-19 على وقفها بأية حال من الأحوال طالما يستطيع المتقاضي القيام بالإجراء في موعده، ذلك الشرط الأخير هو الذي يعطي سلطة تقديرية للمحكمة في نظر ما إذا كان الإجراء قد تم في موعده من عدمه.
لذلك نرى أنه، واستثناءً من الاتجاه الفقهي سالف الذكر – والذي يرى أن لا أثر للكوفيد-19 على وقف سريان المواعيد بصفة عامة – نجد أنه قد يتصور الفرض الذي تصبح فيه تلك الجائحة قوة قاهرة بالنسبة لمتقاضي بعينه مما يسمح بوقف المواعيد السارية في حقه.
على سبيل المثال، حالة المتقاضي المقيم في قرية صدر قرار بعزلها، أو حالة الشخص المريض أو المخالط والذي تم عزله صحياً أو أيضاً حالة الشخص الموجود خارج البلاد ولا يمكنه العودة بسبب قرار وقف الطيران إلى آخر ذلك من الفروض المتصور وقوعها في تلك الظروف.
تلك الفروض الأخيرة يستحيل معها أن يقوم المتقاضي بالإجراء في موعده إذا كان ذلك الأخير قد بدأ في السريان. وهنا يتعين على المحكمة أن تقدر كل حالة على حدة إذا ما تعلق الأمر بميعاد طعن على سبيل المثال لتقرر مسألة قبوله شكلاً لرفعه في الميعاد من عدمه.
أما في حالة صدور قرار بالإغلاق التام للبلاد وما يستتبعه ذلك من حظر التجول وعزل محافظات الجمهورية في حال انتشار الفيروس، هنا يتصور أيضا اعتبار تلك المسألة قوة قاهرة تؤدي إلى وقف جميع مواعيد التقاضي السارية.
لذلك كان من الأحرى أن يصدر قرارًا وزارياً بوقف سريان جميع المواعيد على أن يستأنف سريانها بعد انتهاء حالة الطوارئ الصحية هذه، وذلك حتى لا يترك الأمر للسلطة التقديرية للقاضي.
وذلك الفرض سالف الذكر قد تحقق على سبيل المثال في فرنسا، حيث أعلن القانون رقم 290-2020 حالة الطوارئ الصحية في البلاد في 23/3/2020 وذلك لمدة شهرين تنتهي في 24 من مايو. وقد صدر على إثره 25 قراراً وزارياً يتعلق أربعة منهم بالقضاء، وقد قُرر صراحةً تبعا لذلك:
أولا: تحديد استمرار العمل بالمحاكم على المنازعات الضرورية فقط.
ثانيا: تقف جميع المواعيد السارية خلال تلك الفترة وتبدأ في السريان من جديد بعد شهر من انقضاء حالة الطوارئ (أي من 24/6).
ثالثا: تضع كل محكمة على حدة ما يسمى “بخطة استمرار العمل” لمنع انتشار الفيروس مع استمرار نظر الدعاوى الضرورية.
وأخيرا، يسمح ببعض الإجراءات غير العادية مثل الإرسال بأية وسيلة (إلكترونية أو خطاب بسيط)، كما يسمح بنظر الجلسات بنظام القاضي الواحد والفيديو كونفرانس بمحاكم أول وثاني درجة بقرار من رئيس المحكمة، ويسمح أيضا بتبادل المستندات والكتابات بأي وسيلة مع ضرورة تحقق القاضي من احترام مبدأ المواجهة.
ويتضح مما سبق أن المشرع قد حسم صراحةً مسألة مواعيد المرافعات بأن نص القرار الوزاري صراحةً على انقطاع سريانها بفعل الإغلاق العام للبلاد مع تحديد ميعاد دقيق لبدء سريانها من جديد في الرابع والعشرين من يونيو القادم، وذلك حسما للجدل والخلافات الفقهية والقضائية.
وختاما لما تقدم، يتعين على المشرع المصري تفعيل سياسة التحول الرقمي وذلك بإقرار تعديلات تشريعية تلائم الظروف الراهنة بما يسمح بمباشرة إجراءات التقاضي بدلاً من تعليقها، فقد برزت الآن أهمية تحديث وسائل وآليات مرفق القضاء العام بما يضمن استمرار سيره وكفاءته.
ونقترح لضمان الالتزام بالتباعد الاجتماعي فيما يتعلق بالتقاضي المدني ضرورة تحديث البنية الأساسية للمحاكم بمختلف درجاتها بما يسمح بتفعيل وسائل الاتصال الحديثة والتي قد تمكن المحاكم من عقد جلساتها بنظام الفيديو كونفرانس الذي اتبعته معظم الدول في ظل الظروف الاستثنائية الراهنة.
كما نقترح تعديل قانون المرافعات المدنية والتجارية الحالي بما يسمح بإقرار الإعلان بالطريق الإلكتروني، والذي تبرز أهميته في الوقت الراهن حيث يؤدي إلى تيسير وميكنة عملية الإعلان مما يوفر الوقت والانتقالات لقلم المحضرين.
وقد بدأ المشرع المصري نواة التحديث والتطوير تلك عندما أقر تعديل أحكام القانون الصادر بإنشاء المحاكم الاقتصادية رقم 120 لسنة 2007 وذلك بالقانون رقم 146 لسنة 2019، حيث أقر القانون إمكانية الإيداع والقيد الإلكتروني للدعاوي أمام المحاكم الاقتصادية كذلك إقرار الإعلان والسير في الدعوى بالطريق الإلكتروني أمام تلك المحاكم، ويتسنى فقط إقرار لائحته التنفيذية والتي سوف تحدد آليات ووسائل وضع تلك النصوص محل التنفيذ.
وما أحوجنا في ظل تلك الظروف الراهنة إلى بدأ تطبيق تلك التجربة عمليا لتكون نبراساً يمكن تعميمها تشريعياً على كافة المحاكم مدنية وجنائية وإدارية للسماح في استمرار مرفق القضاء بتقديم خدماته للمواطنين في ظل حالة الطوارئ الصحية التي يمر بها العالم بأسره.
بقلم: د.رضوى مجدى مدير بقسم البحوث بمكتب أدسيرو راجى سليمان ومشاركوه للمحاماة.