كيف سيؤثر وباء كوفيد 19 على الاقتصاد بجميع بلدان المعمورة؟ هذا هو السؤال الذى قُتِل بحثاً على مدار الأشهر الـ3 السابقة تقريباً عندما بدا واضحاً للجميع أن الفيروس مستمر فى الانتشار ولن يتوقف قريباً، خاصة على خلفية استراتيجية الإغلاق الكلى أو الجزئى التى اتبعتها معظم الدول، مما أدى إلى إلحاق أضرار جسيمة بأسسها الاقتصادية فى بعض الأحيان.
وأنا فى الحقيقة لدي قناعة تامة، أنه من الصعب، بل وربما من المستحيل فى هذه المرحلة مناقشة الأمر من منطق توجهات الاقتصاد الكلى، حيث سيكون هذا من وجهة نظرى اختزالاً يخل بالمعنى إلى حد كبير جداً، لأن المؤشرات المرتبطة بالأمر وعلى رأسها التضخم وأسعار النفط والإيرادات الضريبية يجب التعرض لها كل على حدة ومن هنا نصل فى النهاية إلى خلاصة ذات معنى.
وغالباً يكون المؤشر الأكثر أهمية هو المتمثل فى أرقام البطالة لأنها هى التى تؤثر على الإيرادات الضريبية من حيث انعكاسها على القدرة الشرائية، وبالتالى الطلب على المنتجات البترولية ومن ثم أيضاً تضخم الأسعار فى حالة الركود الشديدة، والتى تكون نهايتها الكابوس المسمى “الركود التضخمى”.
وظنى الشخصى، أن أكثر البلاد التى يُمكن تحليل مؤشر البطالة فيها حالياً هى الولايات المتحدة الأمريكية، حيث أصرت إدارة الرئيس ترامب على الحد الأدنى من الإغلاق للحفاظ قدر المستطاع على دوران العجلة الاقتصادية، محاولة بذلك إيجاد طريق وسط.
وبالرغم من تلك المجهودات الحثيثة تخطى مؤشر البطالة حاجز 4% فى مارس الماضى ثم قارب 15% دفعة واحدة فى أبريل وهو صعود تاريخى لا أظن أن الولايات المتحدة شاهدته من ذى قبل من شهر لآخر، حيث بلغ الارتفاع فى هذه الحالة 275%.
صحيح أن نسبة البطالة فى أمريكا كانت قد وصلت إلى ما يفوق 23% عام 1932 أثناء الأزمة الاقتصادية العالمية الأولى التى بدأت سنة 1929، إلا أن هذا الصعود أتى تدريجياً وليس بين عشية وضحاها، حيث بلغت الزيادة حوالى 43% على مدار عام و637.5% على مدار 3 أعوام بالتمام والكمال أى ما لا يزيد على متوسط 4% و18% شهرياً على التوالى وكان هذا فى ظل ظروف استثنائية لا تقل حدتها بحال عما نشهده اليوم.
إلا أنه وبعد كل ذلك نفاجأ بأن نسب البطالة الأمريكية هبطت فى مايو المنصرم من 14.7% إلى 13.3%، أى ما يقارب 1.5% وهذا فى حد ذاته أمر مثير للاهتمام، لأن الولايات المتحدة لاتزال متصدرة لقائمة الدول المتأثرة بفيروس كوفيد 19 حتى لحظة كتابة هذه السطور، سواء من حيث الإصابات (قرابة 2 مليون) أو الوفيات (ما يتعدى 110 آلاف بقليل).
وهنا يجب علينا مواجهة 3 أسئلة رئيسية: الأول يتعلق بالأسباب التى تقف خلف هذا التطور غير المُتوقع، والثانى عن إمكانية أن يكون هذا توجه حقيقى ومستدام والثالث يحاول اشتكشاف مدى ما يمكن أن يكون لذلك من تأثير على اقتصادات بقية بلدان العالم أو على الأقل جزء منها.
وسأحاول الإجابة على السؤال الأول فى هذا المقال وأترك مناقشة السؤالين الآخرين للمقال القادم.
ومن حيث المبدأ يبدو لنا واضحاً أن المحرك الرئيسى لابد أن يكون عمل واشنطن على عودة اقتصادها وإنتاجها وقطاعها الخدمى بكامل قوته فى أقرب فرصة ممكن وبأقصى سرعة وهى خطوة أرى فى الحقيقة أن ترامب مُجبر عليها بدرجة كبيرة بالنظر إلى مسلك دول أخرى تنافسه بعضها فى عدة قطاعات بقوة وفى مقدمتها المكسيك التى قررت عودة قطاعات صناعة السيارات (شديد الأهمية بالنسبة للاقتصاد الأمريكى) والبناء والتشييد والصناعات التكنولوجية بكامل طاقتهم وبصرف النظر عن زيادة وتيرة إصابات كوفيد 19 عندها وانتشاره بين مواطنيها بجميع أنحاء البلاد، ولا تختلف البرازيل عنها كثيراً فى هذا الشأن، بل وقد تزيد فى بعض المجالات.
ومن هنا تشجعت بعض كبريات الشركات الأمريكية وقررت إعادة توظيف عمالة جديدة، فيما يذكرنا بما حدث أثناء تفشى وباء الإنفلونزا الأسبانية من 1918 إلى 1920، حيث ازدهرت قطاعات أخرى مقابل الكساد الذى أصاب آخرين وفى حالة الأزمة الحالية تأتى فى مقدمة تلك القطاعات الصناعات النسيجية (الكمامات وملابس المستشفيات) وهى كثيفة العمالة بطابعها وخدمات الاتصالات بمختلف أنواعها (خاصة الإنترنت بالطبع) وبالرغم من محدودية نسب التشغيل بها وبالطبع قطاع الدواء، ليس فقط بحثاً عن لقاح أو علاج – هذا فى الواقع لا يؤدى إلا إلى خلق فرص عمل قليلة للغاية، ولكن فى الأساس للزيادة المطردة فى الطلب على أدوية تقوية المناعة والفيتامينات بما دفع بعض المصانع إلى عمل توسعات حتى وبما أثر إيجاباً على أنشطة أخرى بشكل تلقائى.
كل هذا كان فقط يحتاج إلى البعض من الوقت كى يُترجم إلى انتعاش نسبى، وبالتالى ارتفاع المعروض من فرص العمل.
بقلم: محمد شيرين الهوارى
الخبير فى الاقتصاد السياسى