يبدو أن الاقتصاد العالمي بعد أزمة الوباء، سيكون على الأرجح اقتصادا أقل خضوعا للعولمة، إذ يرفض القادة السياسيون والشعوب الانفتاح على نحو غير مشهود منذ حروب الرسوم والتعريفات وعمليات خفض قيمة العملة التنافسية في ثلاثينيات القرن العشرين.
ولن تنحصر النتائج الثانوية في تباطؤ النمو وحسب، بل ستشمل أيضا انخفاضا كبيرا في الدخول الوطنية لجميع الدول، ربما باستثناء الاقتصادات الأكبر حجما والأكثر تنوعا.
في كتابه الثاقب البصيرة الصادر في عام 2001 بعنوان “نهاية العولمة”، أوضح المؤرخ الاقتصادي هارولد جيمس من جامعة برينستون كيف انهارت حقبة سابقة من التكامل العالمي الاقتصادي والمالي تحت الضغوط التي فرضتها أحداث غير متوقعة أثناء فترة الكساد العظيم في ثلاثينيات القرن العشرين، والتي بلغت أوجها بالحرب العالمية الثانية.
واليوم، يبدو أن جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19) تعمل على التعجيل بانسحاب آخر من العولمة.
حتى الولايات المتحدة، التي يتسم اقتصادها بالتنوع الشديد، والتكنولوجيا الرائدة عالميا، وقاعدة الموارد الطبيعية القوية، من الممكن أن تعاني من انخفاض كبير في الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي نتيجة للانحسار في العولمة.
وفي الاقتصادات الأصغر حجما والبلدان النامية التي لا تستطيع الوصول إلى المكونات الحرجة في العديد من القطاعات والتي تفتقر غالبا إلى الموارد الطبيعة، يهدد انهيار التجارة بإهدار عقود من النمو.
وهذا حتى قبل أن نضع في الحسبان التأثير الطويل الأمد الناجم عن تدابير التباعد الاجتماعي والحجر الصحي.
وزعم رجل الاقتصاد الراحل ألبرتو أليسينا، وهو شخصية بارزة في مجال الاقتصاد السياسي، أن الحجم الصغير قد يكون جميلا بالنسبة إلى دولة جيدة الحكم في عصر العولمة. ولكن اليوم، تواجه الدول الصغيرة التي تفتقر إلى تحالف اقتصادي وثيق مع دولة كبيرة أو اتحاد، مخاطر اقتصادية ضخمة.
صحيح أن العولمة عملت على تغذية أشكال التفاوت الاقتصادي بين ما يقرب من مليار شخص يعيشون في الاقتصادات المتقدمة. فقد أثرت المنافسة التجارية بشدة على العمال من ذوي الأجور المتدنية في بعض القطاعات، في حين جعلت السلع أقل تكلفة للجميع. وربما يكون بوسعنا أن نقول إن العولمة المالية خلفت تأثيرا أكبر من خلال زيادة أرباح الشركات متعددة الجنسيات وتقديم أدوات جديدة مرتفعة العائد على الاستثمار الأجنبي لصالح الأثرياء، وخصوصا منذ عام 1980.
وفي كتابه الأكثر مبيعا في عام 2014 بعنوان “رأس المال في القرن الحادي والعشرين”، استشهد توماس بيكيتي باتساع فجوات التفاوت في الدخل والثروة كدليل على فشل الرأسمالية.
ولكن من أولئك الذين خذلتهم الرأسمالية بفشلها؟ خارج الاقتصادات المتقدمة ــ حيث يعيش 86% من سكان العالم ــ انتشلت الرأسمالية العالمية مليارات من البشر من براثن الفقر المدقع. وعلى هذا فمن المؤكد أن الإفراط في التراجع عن العولمة يهدد بإلحاق الأذى بعدد من الناس أكبر كثيرا من أولئك الذين قد يستفيدون منه.
من المؤكد أن نموذج العولمة الحالي يحتاج إلى تعديل، خاصة تعزيز شبكة الأمان الاجتماعي بشكل كبير في الاقتصادات المتقدمة، وإلى أقصى حد ممكن في الاقتصادات الناشئة أيضا. لكن لا يعني ذلك تمزيق النظام بالكامل والبدء من جديد.
الواقع أن خسائر الولايات المتحدة من تراجع العولمة ستكون أكبر مما يدرك بعض الساسة على اليمين واليسار.
فبادئ ذي بدء، يشكل نظام التجارة العالمية جزءا من ميثاق يقضي بأن تكون الولايات المتحدة الطرف المهيمن في عالم حيث أغلب الدول، بما في ذلك الصين، لديها مصلحة في إنجاح عمل النظام الدولي.
بصرف النظر عن تداعياته السياسية، يفرض التراجع عن العولمة أيضا مخاطر اقتصادية على أميركا.
على وجه الخصوص، ترتبط العديد من العوامل الحميدة التي تسمح لحكومة الولايات المتحدة والشركات الأميركية باقتراض مبالغ أضخم كثيرا من أي دولة أخرى، في الأرجح، بالدور الذي يلعبه الدولار في قلب النظام. وتُـظـهِـر مجموعة واسعة من النماذج الاقتصادية أن العولمة المالية تتضاءل بأقل قدر من التناسب مع تزايد التعريفات والاحتكاكات التجارية. وهذا لا يعني فقط انخفاضا حادا في أرباح الشركات متعددة الجنسيات وثروة أسواق الأوراق المالية (وهو ما قد يناسب بعض الأطراف)، بل قد يعني أيضا انخفاضا كبيرا في الطلب الأجنبي على ديون الولايات المتحدة.
لن يكون هذا مثاليا في وقت حيث تحتاج الولايات المتحدة إلى اقتراض مبالغ ضخمة حتى يتسنى لها الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي، والاقتصادي، والسياسي.
وتماما كما كانت العولمة محركا رئيسيا لانخفاض معدلات التضخم وأسعار الفائدة اليوم، فإن تحويل العملية في الاتجاه المعاكس قد يؤدي في نهاية المطاف إلى دفع الأسعار والفائدة في الاتجاه الآخر، وخصوصا في ضوء ما يبدو وكأنه صدمة سلبية دائمة على جانب العرض نتيجة لجائحة كوفيد-19.
أخيرا، وليس آخرا، رغم أن جائحة كوفيد-19 ضربت حتى الآن أوروبا والولايات المتحدة بشكل أقوى مما فعلت في أغلب البلدان منخفضة الدخل، فلا يزال أمامنا خطر كبير يتمثل في حدوث مأساة إنسانية في أفريقيا وغيرها من المناطق الأكثر فقرا. فهل الآن هو الوقت المناسب حقا لتقويض قدرة هذه البلدان على الدفاع عن ذاتها؟
حتى لو غضت الولايات المتحدة الطرف عن التأثيرات المترتبة على تراجع العولمة على بقية العالم، فينبغي لها أن تتذكر أن الطلب الحالي الوفير على الأصول الدولارية يعتمد إلى حد كبير على النظام التجاري المالي الواسع الذي يسعى بعض الساسة الأميركيين إلى تقليصه. إذا جاء التراجع عن العولمة مفرطا فلن يسلم أي بلد من الأذى.
المصدر: موقع بروجكت سينديكيت.
بقلم: كينيث روجوف، أستاذ الاقتصاد والسياسة العامة في جامعة “هارفرد”.
المصدر: بروجكت سينديكيت