تواجه مصر واحدة من أصعب الأزمات الناتجة عن تفشى العدوى بفيروس (COVID-19)، وهى أزمات يصعب تصورها بدقة ولا يمكن التنبؤ بتبعاتها حتى الآن، لكننا نشعر بالفعل بالتأثيرات الجذرية التى أثرت على كل الصناعات.
ويقدر ريتشارد كوزول رايت، مدير الأونكتاد، وهى الهيئة الرئيسية للأمم المتحدة التى تتعامل مع قضايا التجارة والاستثمار والتنمية، يقدر تأثيراً سيكلف الاقتصاد العالمى حوالى تريليون دولار، متوقعاً حدوث سيناريو أسوأ من الانهيار المالى الذى حدث فى عام 2008.
وفى محاولة لتدارك الموقف، ضخت الحكومات فى جميع أنحاء العالم تريليونات فى اقتصاداتها بشكل مباشر، كما خفضت أسعار الفائدة وطبقت أشكالاً أخرى من التحفيز النقدى.
ومع تصعيد الحكومات لمحاولتها الحثيثة لإنقاذ القطاع الخاص، تختلف الوسائل التى ستختارها لاحقاً، فبينما سيأخذ البعض حصصاً فى الأسهم، وسيٌقدم آخرون على المزيد من الاقتراض، أما البعض الآخر فسيختار أن يظل منظماً (Regulator).
ولذلك سيبقى أحد أهم الأسئلة المطروحة خلال العقد المقبل هو: بأى طرق ستقلل الحكومات من دورها الاقتصادى فى نهاية المطاف لما له من تأثيرات سلبية على القطاع الخاص؟
أما الاقتصاديون فهم يصرخون من التأثيرات السلبية لتوقف عجلة الإنتاج بسبب تلك الجائحة (Covid-19 Pandemic)، ومما لا شك فيه أن الجميع حالياً يعيد كتابة الوضع الطبيعى الجديد (New Normal) لاستئناف الأنشطة سواء فى مجال التجارة والأعمال أو المستشفيات أو السفر أو النشاطات الرياضية أوالتعليمية كالمدارس والجامعات أو الصناعات المتعددة، فالجميع يسعى جاهداً لإعادة صياغة العلاقات والإجراءات لحياتنا الجديدة، أما فيما يخص القطاع الصحى، فهو منوط به أعمال كبرى تشمل إعادة تصميم صناعة الصحة بالكامل، بالإضافة للمساهمة فى صياغة الوضع الطبيعى الجديد لباقى الصناعات فى كل ما يتعلق بصحة المصريين.
وقد فرضت أحداث تلك الجائحة على المجتمع التفكير الشمولى للإصلاح ( Omni channel approach)، ولقد نشر مركز السيطرة على الأمراض التابع للحكومة الأمريكية (CDC) دراسة توضح أن تواجد الأفراد فى الهواء الطلق وفى مساحات كبيرة جيدة التهوية فى وجود كثافات منخفضة من البشر مع خفض مدة التعرض المباشر (الاختلاط) بين البشر لفترة وجيزة، كل هذا يعد من أهم العوامل التى تؤدى إلى الحد من إحتمال الإصابة بالعدوى، وبالتالى فإن الأماكن ذات المخاطر العالية ربما تشهد تغيير فى تصميمها لتعود مرة أخرى للعمل مثل المولات الضخمة والحمامات العامة والمطاعم وأماكن العمل والمدارس ودور السينما والمسرح والنوادى والفنادق، حيث حفلات الزفاف والمؤتمرات وغيرها من أماكن التجمع المحتملة.
لهذا فإن الحلول الفردية أو حتى تلك الآتية من الصناعة الواحدة لن تكون كافية ولن تؤدى إلى المستهدف وهو بناء بيئة تنافسية آمنة للعمل وللحياة.
ومما لاشك فيه أن معايير التباعد الاجتماعى أصبحت أكثر وضوحاً فى المستشفيات والمصانع والمكاتب، ولكنها على الجانب الآخر ليست كذلك فيما يخص العديد من الصناعات الأخرى مثل السياحة والمدارس ودور السينما والمسارح والنوادى والرياضة والمطاعم والمقاهى، نظراً لما سيكون لذلك من أثر كبير على طاقاتها الاستيعابية (Capacity)، وبالطبع سينعكس ذلك بصورة مباشرة وفورية على التكلفة، ومما سبق يتبين أنه لن يستطيع أحد أن يتنبأ بالتكلفة لأنها حتماً ستتغير يومياً، وستختلف أيضاً بين منطقة وأخرى بنفس البلد، مما يترك انطباعاً أن العالم أصبح فى حالة يمكن أن نسميها حالة إعادة التصميم (Reset).
والآن دعونا نراجع ما قاله أشهر المديرين التنفيذيين لأكبر شركات العالم، فقد صرح الرئيس التنفيذى لشركة «مايكروسوفت» (Microsoft) ساتيا ناديلا (Satya Nadella)، فى تعليقاته عن مراحل العودة للأعمال وإنعاش الاقتصاد: نحن نعمل جنباً إلى جنب مع العملاء كل يوم لمساعدتهم على البقاء منفتحين على العمل فى عالم مليء بكل شيء بعيد (Remote Everything).
علينا الاستعداد لتعديل طلب العملاء بصورة مستمرة (keep adjusting the dial) لأن هذا هو سمة هذا الوقت.
وقد لخص ناديلا مراحل الإنتعاش (Recovery) فى ثلاث مراحل: الأولى تبدأ من حيث مركزك الآن، والثانية هى قدرتك على التكيف مع طلبات العميل المتغيرة، أما المرحلة الثالثة فهى التغيير الهيكلى (Structural Changes) مثل الطب عن بعد والتعليم عبر الإنترنت والتوأمة الرقمية (Digital Twin).
أما المدير المالى لمؤسسة يو بى إس (UPS) براين نيومان (Brian Newman) فى تعليقه المحدد على التعامل مع الثلاث مراحل للانتعاش فقد قال: نحن ننظر إلى الوضع العالمى الحالى على أنه يحتوى على 3 مراحل متميزة: ما قبل الجائحة، ثم قيود البقاء فى المنزل، ثم مرحلة التعافى.
وأكد نيومان، أنهم غير قادرين على تحديد مدة أو عمق الركود الناتج عنها، ونصح بأن تترك هذه الجزئية والمناقشات المرتبطة بها للاقتصاديين، وأضاف: أننا سنركز على الحفاظ على سلامة موظفينا وخدمة عملائنا وضمان سيولة وفيرة لمساهمينا.
كما أوضح نيومان، أنه من المحتمل أيضاً أن يتغير سلوك المستهلك والأعمال فى المستقبل نتيجة لهذه الأزمة، ومما لا شك فيه أن أمامنا فرصة ذهبية لتحسين مركز مصر فى مقياس التنافسية العالمية، إذا ما تفهمنا متطلبات التغيير والمعايير الجديدة للتنافسية فى الأعمال لمرحلة ما بعد «كوفيد».
وأعتقد أن من أهم التحديات التى سنواجهها هى التحول التكنولوجى والذى يمكن شرحه من خلال تعبيرات جديدة نسبية مثل التوأمة الرقمية، وهى نسخة رقمية للأصول المادية المحتملة والفعلية (التوأم المادي) والعمليات والأشخاص والأماكن والأنظمة والأجهزة التى يمكن استخدامها لأغراض متباينة فى القطاعات الصناعية المختلفة وتقنية تكوينية للإنترنت الصناعى للأشياء (IoT)، حيث يمكن للأشياء المادية أن تعيش وتتفاعل مع الآلات والأشخاص الآخرين فعلياً فى سياق إنترنت الأشياء.
كما تجدر الإشارة إلى العديد من التحولات الأساسية المقبلة التى سنشهدها، والتى يجب أن تحسن من بيئتنا التنافسية بين دول العالم، فالناس ستتغير سلوكياتهم الأساسية حول كيفية إنجاز العمل وكيفية المحافظة على مرافقهم نظيفة ومضمونة.
ونوقن أن أمام مصر فرصة سانحة لتحسين موقفها التنافسى إذا ما ركزت على فهم النقاط الثلاث الأساسية التالية: تضافر الجهود فى مجال الأعمال (Business Synergy) – إرساء البنية التحتية الرقمية (Digital Infrastructure) – توطين علم دراسة المستقبل (Futurology).
وحتماً سيشهد العالم صعود الاقتصاد الخالى من التواصل المباشر (Contact-free Economy) فى ثلاثة مجالات على وجه الخصوص: التجارة الرقمية والطب عن بعد والتشغيل الآلى أو ما يعرف بـ«الأتمتة» (Automation).
ودعونا نضرب أمثلة بسيطة بأرقام لتوضح ما يحدث، فيما يخص التجارة الرقمية فقد ارتفعت معاملات التجارة الإلكترونية فى إيطاليا بنسبة %81 فى مارس 2020، أما الطب عن بعد، فقد أعلنت شركة (KRY International) السويدية، والتى تعد أكبر مزودى الخدمات الصحية عن بعد فى أوروبا، أعلنت عن زيادة بنسبة %200 فى إجمالى عدد عملائها.
أما بالنسبة للتشغيل الآلى أو ما يعرف بـ«الأتمتة» (Automation)، ففى أواخر عام 2017 قدر معهد ماكينزى العالمى، أن الأتمتة يمكن أن تؤثر على 400 – 800 مليون وظيفة بحلول عام 2030.
ومن المؤكد، أن عالم الأعمال الخالى من التواصل المباشر (Contact-free Economy) يمكن أن يزيد من تسارع هذه الاتجاهات.
وأخيراً فإننا نقترح أن تطلق الدولة مسابقة لمشروعات الحلول الكلية، فى محاولة لعلاج التحديات البيولوجية والبدنية والعاطفية، والتى ترتكز على الدمج بين الهندسة المعمارية والاقتصاد والبيئة.
وتعد تلك المسابقة دعوة للحوار الجاد بين المتخصصين لتوليد أفكار ذات بصيرة تميز الفترة المقبلة وتلهم المؤسسات المصرية المختلفة لوضع حلول فعالة وخطط بديلة للاقتصاد المصرى لمرحلة ما بعد كوفيد 19، فنحن على قناعة تامة أن سرعة الوصول إلى تصميمات جديدة للخدمات ستؤدى حتماً إلى خلق الوظائف، والحد من البطالة، وتصور آمن للبناء الجديد للمساكن، وإعادة التنشيط لقطاعات مختلفة مثل السياحة والثقافة والرياضة، مما سيساهم فى دعم رجال الأعمال المحليين مع وضع تصور واضح للحلول الكلية للأماكن العامة.
بقلم الدكتور خالد سمير؛ خبير الرعاية الصحية والاستثمار الصحى ، رئيس مجلس إدارة تشاور للاستشارات