يخطئ كثيراً من يظن أن كرة القدم مجرد لعبة للترفيه وتمضية أوقات الفراغ. فهى قد تكون كذلك للبعض ولكنها للبعض الآخر متعة لا تضاهيها متعة، محتوى للحياة أحياناً ومتنفس هام للتخلص من هموم الحياة اليومية وشقاء السعى وراء لقمة العيش.
وعليه لم أتعجب كثيراً من حجم الفجوة التى حدثت فى حياة الكثيرين – وأنا شخصياً منهم – عندما توقفت الأنشطة الرياضية حول العالم، ومنها كرة القدم، على خلفية تفشى وباء كوفيد-19 ولم يتبقى لأحد سوى مشاهدة المبارايات المُسجلة والحلم برؤية عبارة «بث مباشر» بالطرف العلوى الأيمن للشاشة أو الذهاب إلى الأستاد.
ولكن الحقيقة هى أن الجانب الاقتصادى، الذى لم يناقش سوى قليلاً، أهم كثيراً من الجانبين الإنسانى والصحى. فلقد أخبرنى صديقى مهند على، الصحفى الرياضى بقناة «بى بى سى»، أن الدافع الرئيسى وراء معاودة نشاط الدورى الألمانى مثلاً كان شبح الإفلاس الذى بات يهدد 14 نادياً وأن النادى الأسبانى الملكى الكبير المعروف بوفرة الأموال ريال مدريد لن يتمكن من شراء لاعبين جدد فى موسم الانتقالات القادم بسبب ضيق ذات اليد. وأخبرنى كذلك بأن البرتغال أسست صندوق للأندية المُهددة بالإفلاس تبرعوا له كريستيانو رونالدو ولاعبى المنتخب بمبلغ 5 مليون يورو.
ولا يقتصر الأمر هنا على قيمة تذاكر دخول المبارايات بالطبع، بل علمت منه أيضاً أن الخسارة الأكبر للأندية والاتحادات جاءت من أن القنوات التليفزيونية صاحبة حقوق البث رفضت بالطبع دفع القسط الأخير من التزاماتها وحتى الدوريات التى ستكمل نشاطها سيكون المقابل أقل لأن الفترة الزمنية مضغوطة لشهر ونصف الشهر بدلاً من شهرين ونصف الشهر بما يؤثر على الإعلانات التى تريد فترة زمنية طويلة وليس مجرد عدد معين من مرات الإذاعة.
ولكن ما أثار انتباهى أكثر من خسائر الأندية والهيئات ووقف النشاط هو مدى هشاشة هيكل ما كنا دائماً نعتبره من أكثر القطاعات الاقتصادية صلابة وقوة لدرجة أن حتى كبريات الشركات الصناعية لم تتأثر بهذا القدر المهول وربما يمكننا القول أن كرة القدم هى الخاسر الأكبر حول العالم بسبب كوفيد-19 ومعها بالطبع صناعة السفر والسياحة.
ونلحظ هنا بوضوح أن هاتين الصناعتين الكبيرتين هما من الصناعات القليلة المتبقية التى تقوم على نشاط إنسانى بحت لا يُمكن إحلاله بالتكنولوجيا أو الذكاء الاصطناعى. فبينما تقوم اليوم صناعات مثل الهندسة والبناء فى جزءها الأكبر على الماكينات والحواسب الآلية، لا يمكننا تصور سياحة بدون سائح وعامل فندق، مثلما لا يمكننا تصور أن كرة القدم الالكترونية، الموجودة بالفعل، قد تكون يوماً ما بديلاً مستداماً عن اللاعب الحى من لحم ودم. وبالتالى نجد أن هذه وتلك أكثر عُرضة للتأثر بمثل هذه الظروف بما فى ذلك صعوبة تطبيق فكرة مثل «التباعد الاجتماعى»، الذى هو فى واقعه «تباعد جسدى» أكثر منه أى شئ آخر، على لعبة كرة القدم مثلاً.
ويذهب بنا هذا إلى ان صناعة الرياضة وفى مقدمتها كرة القدم بالطبع إذا أضيرت، فهى لا تضر اللاعبين أو خزانات الأندية فقط، بل تؤثر على الملايين من العمالة والموظفين المرتبطين بها بشكل مباشر أو غير مباشر من عمال الأستادات وفنييى قنوات البث التليفزيونى عبوراً بالأجهزة الفنية للفرق والأطفال الذين يجمعون الكرات من خلف المرمى، وصولاً إلى عمال المقاهى أو الكافيتيريات التى تذيع المبارايات الكبرى، خاصة المُشفرة، وأصحاب الحافلات التى تنقل الجماهير و…. و…. و…. القائمة تطول فى الحقيقة.
وبالرغم من كل ذلك نجد أن حتى الأندية الكبرى لا توجد لديها خطط بديلة فى مواجهة الأزمات.
صحيح أن كوفيد-19 ضرب كل القطاعات الاقتصادية بشكل مفاجئ ولكن معظمها كان لديه استراتيجيات للتعامل مع الطوارئ والكوارث الطبيعية والأزمات السياسية، تمكن بعضهم من تعديلها بحيث تتوافق مع الحد الأدنى المطلوب لتحجيم خسائر كوفيد-19. أما كرة القدم، فلم يكن لديها لا الكثير ولا القليل لتقدمه واضطرت دول مثل أسبانيا وألمانيا وإيطاليا وانجلترا لأن تصدر قرارات بعودة النشاط بصرف النظر عما يشكله ذلك من تهديد لصحة وسلامة اللاعبين.
صحيح أن بعض الدوريات مثل الفرنسى والهولندى لم يعودا وأدى ذلك إلى حالة من الخراب بين أنديتها وصحيح أيضاً أنها دوريات قوية وتستثمر فيها أموال طائلة ولكن شتان الفارق فى القيمة المادية بين فريق مثل باريس سان جيرمان الفرنسى أو أياكس أمستردام الهولندى وهى أكبر أندية بطولاتها من جانب وفريق مثل برشلونة فى الدورى الأسبانى أو مانشستر سيتى الإنجليزى من جانب آخر. ومن هنا يكون إلغاء الدورى المصرى مثلاً أمراً يسيراً لضآلة المبالغ المستثمرة فيه.
وعليه أعتقد أن القائمين على كرة القدم فى العالم يحتاجون إلى إعادة التفكير بجدية فى بناء استراتيجياتهم المستقبلية وإلا لن نجد شيئاً نشاهده مع أى أزمة قادمة سوى دورى كوفيد-19 لأبطال البلاى ستيشن.
بقلم: محمد شيرين الهوارى
الخبير فى الاقتصاد السياسى