تحضرنى فى هذه الأيام بعض مقولات السياسى النمساوى المخضرم كليمينس فون ميرنيخ (1773 – 1859) الذى فى أغلب الأحوال عُرف بتوجهاته المحافظة وتطلعاته الدائمة إلى إبقاء الوضع على ما هو عليه إلا إذا ما كانت هناك ضرورة مُلحة للتغيير.
وعلى هذه الخلفية يجب علينا فهم ما قاله عن أن «الاستقرار لا يعادل الجمود»؛ حيث إن الاستقرار لا ينفى بالضرورة الحراك والتطور فى سياق معين، وما إذا كان مطلوباً لتحقيق أغراض معينة لا مفر منها ولذا قال ميترنيخ أيضاً إنه «من العبث غلق الأبواب أمام الأفكار الجديدة، لأنها ستتجاوزها فى جميع الأحوال»، بمعنى أن التقدم قادم لا مُحالة ولكن، وعلى حد قول ميترنيخ أيضاً، «المبدأ ليس فى هل ستتحقق الأفكار الجديدة ولكن متى ستتحقق»، أى فى أى ظرف تاريخى.
وأنا فى الحقيقة أذكر هذه المقولات جميعها الآن على وجه التحديد فى ظل النقاش المحتدم الدائر حول ضرورة التحول إلى الاقتصاد الرقمى والإلكترونى بعد ما شهده العالم من ركود وجمود؛ بسبب أزمة انتشار وباء «كوفيد- 19» والذى تسبب فى أضرار اقتصادية جسيمة يصعب حتى الآن حصرها أو تقديرها وقد تأتى فى النهاية أضعاف أضعاف ما نتوقعه اليوم.
وربما أكون مخطئاً بعض الشىء عندما أصف الخطاب الحالى بأنه «نقاش» من الأساس؛ لأن «النقاش» فى الحقيقة يفترض وجود وجهتى نظر أو أكثر تختلفان عن بعضهما البعض، ويكون هناك جدال فيما بينهما وهو ليس الوضع بالمرة؛ حيث يبدو واضحاً أن هناك اتفاقاً واسع النطاق على أنه ليس هناك خلاص للبشرية ومستقبلها سوى هذا التحول إلى الاقتصاد الرقمى والإلكترونى قدر المستطاع، وكلما كان أكثر، كان أفضل، ولتذهب كل الأنسقة الاقتصادية التى ابتكرتها وطورتها البشرية منذ بدايات القرن التاسع عشر (وتحديداً ما بعد عصر التنوير مباشرة) إلى الجحيم أو فلنعتبرها لم تكن اساساً.
ومن هنا جاء تقسيم هذا المقال إلى أجزاء أربعة، أول اثنين مقدمة ومدخل يعنيان بعرض الأمر الواقع، أو بعبارة أخرى، ما الذى حدث تحديداً من الناحية الاقتصادية الفنية، وكيف أثر علينا بالفعل.
ثم يأتى الجزء الثالث ليناقش مدى ضرورة إجراء التحول المُشار إليه من الأساس. ونختم فى الجزء الرابع بشكل البدائل المطروحة أو الممكنة لذلك إذا ما اتفقنا على أن تلك العملية ليست بالمصير المحتوم لبقاء الجنس البشرى على وجه الكرة الأرضية أو على الأقل أنها ليست بالعملية التى يجب أن تتم بالشكل الكامل المتكامل الذى يتصورونه البعض أو حتى معظمنا فى هذه اللحظة.
ما حدث ببساطة أن جاءت فى يوم مشهود «منظمة الصحة العالمية» وأوصت بما أطلق عليه «التباعد الاجتماعى» بين الناس ودعتهم إلى البقاء بمنازلهم قدر المستطاع وهو ما اتبعته العديد والعديد من الدول – ومنها الدول القيادية على مستوى العالم اقتصادياً – بدرجات متفاوتة من الإغلاق الكلى أو الجزئى بما فى ذلك توقف معظم الأنشطة غير الضرورية – أى كان تعريف كلمة «ضرورية» فى هذا السياق – لفترات وصلت إلى ثلاثة أو حتى أربعة أشهر متتالية.
ولا يحتاج الأمر بالطبع إلى أن يكون المرء خبيراً اقتصادياً مخضرماً ولا حتى امتلاكه بيانات موثقة من على أرض الواقع كى يستنتج أن كل ذلك أدى لحدوث خلل شديد فى سلاسل الإمداد والتوزيع وأنماط الاستهلاك وكمياته والقدرات الشرائية وآليات العمل ودورات التداول النقدى، وبالتالى أيضاً للشىء نفسه فى أسواق الأوراق المالية والعملات وبورصات البضائع إلخ؛ حيث وجدنا أنفسنا أمام موقف لم يحدث من ذى قبل على هذا النطاق الواسع وتلك الطريقة فيما نذكره من تاريخ، معاصراً كان أم قديماً. ووجدنا أن العالم ككل ورغم وجود مواقع على شبكة الإنترنت تتيح جميع الخدمات والمنتجات التى يمكنها أن تخطر على البال، لم يكن مستعداً لذلك من قريب أو بعيد بالرغم من توفر بنية تحتية فى وسائل الاتصال قادرة على التعامل مع الضغوط المتزايدة، حتى فى الدول الأقل تقدماً بهذا القطاع مثل مصر.
لقد اكتشفنا ببساطة أن سلوكيات الاستهلاك والتعامل مع الخدمات وتقديمهما لا يتفقان مع النمط الإلكترونى إلا فى حدود ضيقة للغاية؛ حيث لا يزال هناك بالنسبة لمعظم الناس فارق على سبيل المثال ما بين اختيار المنُتج الذى يريده من على رف منفذ بيع حقيقى حيث يمكنه أن يلمسه ويتفحصه كيفما يشاء وبين التفضيل بناءً على صور تعرضها له شاشة الكمبيوتر أو الهاتف الذكى. هذا بعيداً الطبع عن مجالات ظهر فيها الأمر أكثر وضوحاً حتى مثل الفندقة وقطاع الضيافة برمته، فليس هناك مجال حتى للمقارنة ما بين وجود الشخص فى مطعم وطلبه لتوصيل نفس الوجبة إلى المنزل. وهذا وذاك ما سنتعرض له بشكل أكثر تفصيلاً فى الجزء الثانى من هذا المقال.
بقلم: محمد شيرين الهوارى
الخبير فى الاقتصاد السياسى