تجاوز عدد حالات الإصابة بمرض فيروس كورونا الجديد في الشرق الأوسط عتبة المليون، ويأتي اتخاذ بعض دول المنطقة لخطوات نحو تخفيف الإجراءات الوقائية بشكل جزئي وتدريجي بهدف تسريع وتيرة استئناف العمل والإنتاج، ليشير إلى أن وضع الوقاية من الفيروس والسيطرة عليه في الشرق الأوسط دخل مرحلة جديدة عنوانها تعزيز الثقة في القدرة على مجابهة الجائحة وانعاش النشاط الاقتصادي.
وثمة اختبار جديد تواجهه دول الشرق الأوسط يتمثل في كيفية تحقيق “التوازن” بين السيطرة على الجائحة وتعزيز التنمية الاقتصادية ورفع ثقة المواطنين والتخفيف من خطر حدوث أضرار اقتصادية دائمة الأثر وإرساء شبكة قوية وفعالة للأمان الاجتماعي.
جهود لدفع الإنعاش الاقتصادي
خفّض صندوق النقد الدولي في تقرير أصدره يوم 13 يوليو الماضي مرة جديدة توقعات النمو في الشرق الأوسط وشمال افريقيا لتتراجع إلى أدنى مستوياتها منذ 50 عاما، وذلك على خلفية استمرار تداعيات تراجع أسعار النفط وانتشار فيروس كورونا الجديد.
لأجل استجابة للجائحة والتحديات، اتخذت دول الشرق الأوسط سلسلة من السياسات والإجراءات للحد من آثار فيروس كورونا الجديد، والتي تتضمن بالإضافة إلى حزمة تحفيز نقديا وماليا، التدابير لتوسيع الحماية الاجتماعية في المنطقة، التي كانت الأداة الرئيسية لزيادة الإنفاق غير الصحي، مثل خطط التحويلات النقدية والعينية (التي يستخدمها أكثر من ثلثي البلدان)، والإجازات المدفوعة، وإعانات البطالة، وإعانات الأجور، كما تم زيادة الإعفاءات الضريبية المؤقتة على السلع الأساسية، وكذلك تفعيل مبادرات لتقديم خطوط ائتمان للشركات الصغيرة والمتوسطة.
وفي هذا الصدد، أعرب محللون اقتصاديون عن تفاؤلهم تجاه الإنتعاش الاقتصادي في السنة القادمة، حيث أشارت قونغ تينغ، الخبيرة بمعهد الصين للدراسات الدولية، إلى أن “الدفع السلس لاستئناف العمل والإنتاج له أثر إيجابي على تعزيز الانتعاش الاقتصادي وحماية سبل العيش واستعادة نشاط السلسلة الصناعية العالمية”.
وفي المنطقة، يعد استئناف حركة الملاحة الجوية في الدول العربية بمثابة مؤشر إيجابي على العودة إلى الحياة الطبيعية ومن شأنه أن يعطي دفعة قوية لإنعاش الاقتصاد، ففي الأردن، أعلن رئيس مجلس مفوضي هيئة الطيران المدني أن إعادة فتح المطارات وعودة الطيران الدولي ستكون في الخامس من شهر أغسطس، كما أعلن قطاع الطيران المصري عن زيادة الرحلات إلى 35 وجهة دولية اعتبارا أول أغسطس، واستأنف العراق الرحلات الجوية المنتظمة منذ نهاية يوليو مع إعلان دول أخرى عديدة في المنطقة عن استئناف الرحلات الداخلية والدولية.
ومن ناحية أخرى، أقر مجلس الوزراء المغربي برئاسة الملك محمد السادس بقانون مالية تعديلي (موازنة)، للحد من تداعيات كوفيد-19، وتقرر في إطار هذه الموازنة، دعم الاستثمار العمومي بما يمكن من تسريع استعادة الاقتصاد المغربي لديناميته، مع العمل على الحفاظ على مناصب الشغل في القطاع الخاص.
أما بالنسبة لقطاع الاتصالات في زمن كوفيد-19، فإنه لم يعد يقتصر على التواصل التقليدي، بل بات يشكل العمود الفقري لاستخدام البيانات والمحتويات والتطبيقات الرقمية من قبل الأفراد والحكومات والشركات لضمان استمرارية النشاط الاقتصادي والاجتماعي في ظل التباعد الاجتماعي والإغلاق الكامل في معظم دول العالم.
وقد استجابت الحكومات في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بشكل سريع وعملت على تحسين شبكات النطاق العريض وتعزيز خدمات الإنترنت، فعلى سبيل المثال، قامت بعض الحكومات وشركات الاتصالات بتخفيف عبء شراء بطاقات تعبئة الرصيد على مستخدمي الدفع المسبق، والسماح لهم بالدفع بعد الاستهلاك، كما قامت أيضا بزيادة حجم حزمات الإنترنت وسرعاته للمستخدمين دون كلفة إضافية.
“إن إنقاذ الأرواح وإنقاذ سبل العيش يمكن ويجب أن يسيرا جنبا إلى جنب. وهذا يعني تهيئة الظروف المناسبة لاستئناف حركة الاقتصاد بشكل مسؤول. ويعني الحفاظ على المرونة وتعديل عملية إعادة التشغيل الاقتصادي حسب الحاجة”، هكذا قالت كريستالينا جيورجيفا المديرة التنفيذية لصندوق النقد الدولي.
مؤشرات على عودة الحياة الطبيعية
إن “الإجراءات الفورية، التي اتخذتها دول المنطقة في الوقت الذي يجتاح فيه كوفيد-19 العالم، ساعدت على إنقاذ الأرواح”، هكذا قال جهاد أزعور مدير إدارة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في صندوق النقد الدولي، مؤكدا أن صندوق النقد الدولي سيعمل مع الدول للمساعدة في تسهيل الانتعاش الاقتصادي وتقديم يد العون للملايين ممن تواجه معيشتهم صعوبات في أعقاب الجائحة”.
وعلى الرغم من الصعوبات الجارية، لاحظ الخبراء بوادر انتعاش وبشائر انطلاقة بعد فترة من الإغلاق ضمن مجموعة من الإجراءات الاحترازية التي قامت بها دول المنطقة لمواجهة فيروس كورونا الجديد. وفي مصر، تشمل القرارات الجديدة السماح للمقاهي والكافتيريات والمطاعم، وما يماثلها من المحال والمنشآت باستقبال الجمهور حتى الساعة 12 منتصف الليل، مع زيادة نسبة الإشغال إلى 50% من الطاقة الاستيعابية. ويتطلع الناس أيضا إلى أن يتم النظر بعد عيد الأضحى في إمكانية السماح للحدائق والمتنزهات باستقبال الجمهور بمعدل أكبر.
أما في الأردن، فقد قررت الحكومة الأردنية تمديد ساعات العمل لجميع الأنشطة الاقتصادية وتقليص ساعات حظر التجوال الليلي. وقد طالبت النقابة العامة لتجار المواد الغذائية بتمديد ساعات الدوام خلال الأيام حتى الساعة الثانية بعد منتصف الليل على أقل تقدير، وعدم إغلاق الشوارع التجارية أمام حركة السيارات والسماح بالوقوف أمام جميع المحال التجارية والمطاعم ومحال الحلويات بشكل غير مزدوج وزيادة الأماكن المخصصة لبيع الأضاحي.
وفي الحقيقة، أكد تقرير صادر عن مركز الدراسات الصينية العربية للإصلاح والتنمية أن الأزمة الصحية الجارية دفعت إلى التوجه نحو رفع مستوى الصحة العامة في المنطقة والعالم ورفع وعي المواطنين بأنماط الحياة الصحية.
فعلى سبيل المثال في المملكة السعودية العربية التي تستقبل موسم الحج، أعلنت وزارة الصحة أنها تحرص على العمل على تطبيق مبدأ “العزل الصحي” قبل وبعد أداء فريضة الحج على جميع حجاج هذا العام، داعية جميع الحجاج إلى الالتزام بجميع الإجراءات الوقائية من تباعد اجتماعي ولبس الكمامة والحفاظ على النظافة الشخصية. كما أقامت وزارة الصحة عدداً من المرافق الصحية في المشاعر المقدسة لتوفير الرعاية الطبية، شملت مستشفى ومستشفى ميدانيا ومركزا صحيا في عرفات وعيادة متنقلة وست سيارات إسعاف عالية التجهيز وثلاث عيادات في مقر سكن الحجاج.
وقد أكدت نيراف شاه ستيف كولينز، وهي كاتبة عمود في صحيفة “صن جورنالز” الأمريكية، أن الحياة قد تعود إلى الوضع “الطبيعي” في وقت قريب، ولكن بصورة تدريجية، مع شعور بوجود اختلاف في أشياء روتينية مثل التسوق من البقالة عما كانت عليه قبل بضعة أشهر.
وقالت إنه كما هو الحال مع الكثير من الأشياء، فإن الناس يتمتعون بالمرونة وسرعان ما سيعتادون على “الطريقة الجديدة” لتصبح “طريقة عادية” في حياتهم، فطريقنا إلى أي شيء “طبيعي” سيصبح طريقا نسلكه معا، مسترشدة بالطيبة والروح التعاونية التي تحلى بها الناس أثناء مكافحة الجائحة.
تبديد الخوف من الجائحة
لقد أصبح انتشار كوفيد-19 “مصدر قلق جديد” لشعوب بلدان الشرق الأوسط التي عانت من حروب واضطرابات وصعوبات اقتصادية في السنوات الأخيرة؛ وجاءت الأنشطة الثقافية والحضارية والفنية لتجلب العزاء والأمل للناس المعزولين في منازلهم وذلك عبر منصات إعلامية تقليدية مثل المسارح وأخرى جديدة مثل الإنترنت.
فدار الأوبرا المصرية استأنفت في منتصف يوليو نشاطها الفني بحضور جماهيري بعد توقف دام لأكثر من ثلاثة أشهر بسبب تفشي مرض فيروس كورونا الجديد. وأطلقت وزيرة الثقافة المصرية إيناس عبد الدايم إشارة استئناف أنشطة وعروض دار الأوبرا المصرية، وذلك ضمن خطة إعادة تشغيل جميع المنشآت والمواقع الثقافية في مصر، قائلة إن رجوع الأضواء إلى مسارح الأوبرا تؤكد رغبة المجتمع في استرداد عالمه الطبيعي.
وافتتح الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي قصر البارون إمبان بعد الانتهاء من عملية ترميمه، التي تكلفت 100 مليون جنيه مصري “نحو 6 ملايين دولار أمريكي”. وأقبل مئات الزوار بشغف كبير على زيارة هذا القصر الأسطوري الكائن في حي مصر الجديدة بالقاهرة، والذي أعيد افتتاحه مؤخرا للجمهور بعد ترميمه بالكامل لأول مرة.
وفي سوريا، عادت الفرقة السيمفونية الوطنية السورية لجمهورها عبر أقنية العالم الافتراضي من خلال تقديم مقطوعة موسيقية لاتينية نشرت عبر صفحة دار الأسد للثقافة والفنون الرسمية. كما قام 46 فنانا من الأوركسترا السيمفوني اللبناني “بتقديم عرض على الإنترنت” لتشجيع الناس على تعزيز ثقتهم أثناء العزلة المنزلية، وعلق الجمهور على مواقع التواصل الاجتماعي على العرض قائلين “شكرا لكم!”
وتؤكد الدراسات الطبية أهمية تعزيز الجانب النفسي للتصدي لفيروس كورونا وتعزيز مناعة الإنسان عبر ممارسة أنشطة متنوعة للابتعاد عن الأجواء السلبية وملء أوقات الفراغ بأشياء مفيدة.
ومن المتاحف إلى المقاهي والفنادق، ومن المكاتب العامة إلى المسارح ودور السينما وحدائق الحيوان، ساهمت الأنشطة الفنية والثقافية في إدخال شعور بالثقة والارتياح إلى نفوس المواطنين الذين عانوا من الخوف والقلق خلال النصف الأول من العام الجاري ويتطلع الناس في المنطقة إلى العودة إلى الحياة الطبيعية ضمن الإجراءات الاحترازية.