بقدر ما تبدو موجة البيع في أسواق الأسهم الأمريكية، يوم الخميس الماضي، كبيرة ومفاجئة للكثيرين، فإنها لا تشكل مفاجئة كبيرة للمستثمرين المخضرمين.
فالأسواق كانت معرضة للهبوط بعد 5 أشهر من المكاسب المتتالية، وبعد أفضل شهر أغسطس منذ عقود، ووصول مؤشري “ستاندرد آند بورز 500″ و”ناسداك” إلى عدة مستويات قياسية.
والسؤال الأكثر إثارة للاهتمام الآن هو: ماذا سيحدث بعد ذلك؟ هل ستصطف الأسهم مع مجموعة متزايدة من أجزاء السوق التي أصبحت إلى حد ما أكثر تماشيا مع الأسس الاقتصادية مؤخرا؟ أم هل ستشعل موجة البيع تلك ببساطة ما كان استراتيجية استثمار موثوقة ومربحة للغاية وهي “شراء الأسهم منخفضة التقييمات”؟
وانظروا إلى ما حدث لـ”ناسداك” المؤشر الامريكي الذي عانى من أكبر الضرر يوم الخميس مقارنة بمؤشري “داو جونز” الصناعي و”ستاندرد آند بورز”.
وأخذه الهبوط بنسبة 5% إلى المستوى المشهود منذ 7 جلسات تداول فقط، ولم تتسبب موجة البيع في تآكل كبير لمكاسبه المبهرة منذ عام وحتى الآن بنسبة 28%، ناهيكم عن الارتفاع الهائل بنسبة 67% من أدنى مستوى وصل إليه المؤشر في 23 مارس.
وعلاوة على ذلك، تظهر بعض أسهم الشركات المدرجة في المؤشر، تباينا أكثر حدة.. فتراجع سهم تيسلا بنسبة 18% خلال 3 أيام لا يضاهي مكاسب الشركة منذ عام وحتى الآن عند 386%.
كما أن موجة البيع تلك ليست هامة عند مقارنتها بما يحدث في أجزاء أخرى من السوق. فالمستويات القياسية التي وصلت إليها الأسهم مؤخرا تتناقض بشدة مع الإشارات التقليدية الأكثر حذرا – إن لم تكن المتعارضة – التي ترسلها العائدات المتراجعة لديون الحكومات، والارتفاع الثابت في فوارق العائد للأصول عالية العائد الخطيرة وصعود قراءة مؤشر التقلبات “فيكس”.
وأخيرا، ثمة عدم الارتباط الكبير بين سوق الأسهم والوقائع على الأرض بالنسبة للاقتصاد والشركات.
ورغم تعافي النمو والوظائف، فإن وتيرة التحسن تباطأت وتحولت التوقعات بتعافي حاد على شكل حرف “V” إلى تكهنات أقل تفاؤلا على المدى القصير ومخاوف أكبر بشأن الضرر طويل الأجل لميزان العرض والطلب.
وبدلا من الشعور بالمفاجئة مما حدث يوم الخميس، ينبغي أن يكون التركيز على ما سيحدث لاحقا، وهو سؤال أصبحت إجابته أكثر صعوبة نتيجة مدى تشويه السياسة النقدية شديدة التيسير للتقييمات واستراتيجيات الاستثمار في السوق.
وتتواجه بشكل خاص مجموعتين من القوى، هي استمرار الفنيات المحببة في السوق مقابل زيادة الاستثمار في المشتقات والتأكيد المتزايد لأسس الشركات والاقتصاد.
وأدت سنوات الضخ الوفير والموثوق للسيولة من قبل البنوك المركزية وتصريحاتهم بمواصلة السياسة النقدية الفضفاضة بشكل استثنائي إلى تشجيع المستثمرين على الشراء في أوقات التراجع، فبعد كل شيء، ما الشيء الأكثر بثا للطمأنة من برامج شراء الأصول واسعة النطاق من قبل البنوك المركزية؟
وتتم عمليات شراء الأوراق المالية من قبل كيانات ليست حساسة لمستويات الأسعار ولديها مطابع نقود.. يبدو أنها لا تواجه أي قيود على الأقل على المدى القصير. وأصبح هذا الهيكل التشغيلي، محل تبنى بشكل متزايد من قبل مستثمري التجزئة الذين أصبح دخولهم للسوق أكثر سهولة بسبب انتشار برامج الملكية المقسمة وتطبيقات الاستثمار التي تستهدف جيل الألفية مثل “روبن هود”.
وتأثرت استجابة المستثمرين كذلك باستراتيجيات الاستثمار في أسواق المشتقات، فمن ناحية تم إحباط ميل بيع الأسهم على المكشوف من قبل هؤلاء المهتمين بالتقييمات، ولكنها كذلك قادت إلى مزيد من الشراء عبر الاقتراض بدلا من الشراء المباشر بالنقدية وتزويد المحفظة بأدوات تحوط، وهو ما يوحي بأنه حال حدوث تراجع كبير في الأسهم سيقود إلى مزيد من البيع بدلا من الشراء الفوري، وسيتسارع هذا البيع إذا تحولت عقلية المستثمرين شديدة التركيز على السيولة إلى عقلية أكثر تركيزا على الأسس.
والإجابة على سؤال “إلى أين سينتهي المطاف بالمستثمرين في حرب القوى الجارية” ستعتمد بقدر كبير على “جيناتهم” الاستثمارية – أي إذا كانت الأسس هي من تؤثر على سلوكهم الاستثماري أو إذا كانت سنوات توافر السيولة قد طمست الأساليب الاستثمارية التي كانت مقدسة في يوم من الأيام بالنسبة لهم؟
وأميل إلى الاعتقاد بأن الأسس الاقتصادية تفرض نفسها بالأخير، وإذا لم يحدث ذلك الآن بسببب تدخلات البنوك المركزية، فسيحدث لاحقا وهو ما سيتضمن ركودا أكبر بكثير.
ويكمن الأمل بالنسبة للمستثمرين في تحسن الأسس الاقتصادية بشكل كافي في الشهور المقبلة، لكي يكون التصالح بالأخير مع الفنيات السوقية أقل إيلاما.
بقلم: محمد العريان، مستشار اقتصادي لمجموعتي “أليانز” و”جرامسري”، ورئيس كلية كوينز بجامعة كامبريدج.
إعداد: رحمة عبدالعزيز. المصدر: وكالة أنباء “بلومبرج”.