اقتصادنا يا تعبنا.. المقالة رقم 117
يُعد حكم (سيادة) القانون من أهم مقومات مكافحة الفساد الاقتصادى، وإن كانت مكافحته لا تقتصر على وجود القواعد القانونية وحدها؛ فلا بد من وجود مقومات أخرى تضمن فعالية تطبيق القانون وتحقق سيادته.
ومن هذه المقومات التى ميزت الدول المتقدمة عن غيرها تفعيل الاتفاقيات الدولية المصدق عليها فى مجال مكافحة الفساد، وتمكين نصوص القانون من التطبيق الفعلى، وضمان سيادتها على أرض الواقع، وعلى جميع الكيانات بلا استثناء. وأسهم فى ذلك طبيعة تلك النظم الديموقراطية التى تُعزز حكم الدستور والقانون، ونظم النزاهة والشفافية وأُطر الرقابة الشعبية والمؤسسية، بما يضمن تحقيق المحاسبة، ومن ثم مكافحة الفساد.
ويمكن القول: إن معظم الدول الدول المتقدمة فى انفاذ العقود وبيئة الاستثمار مثل: (الدنمارك، وفنلندا، ونيوزيلاندا، وهولندا، ولوكسمبورج، والسويد، والنرويج، وسويسرا، وسنغافورة، وماليزيا) قد اشتركت فى إصدار بعض النصوص القانونية، لاسيما تلك المتعلقة بمكافحة الرشوة وتطبيقها على القطاعين العام والخاص والأشخاص الاعتبارية كالشركات دون استثناءات، فضلا عن قوانين مكافحة الرشوة الأجنبية.
وقد حرصت تلك الدول على التغلب على ظاهرة الفساد من خلال المراجعة المستمرة وتعديل ثغرات التطبيق، بموجب ما لديها من مرونة تشريعية وشفافية تسهم فى تحقيق المصلحة العام بفعالية، وهذا ما ظهر جليًّا فى الحالة الهولندية، بالإضافة إلى حالة دولة لوكسمبورج، والتى كانت تعانى من ضعف تطبيق الإطار القانونى، فأدخلت بعض التعديلات الخاصة بقوانين مكافحة الفساد فى عامى 2013 و2017، كما شهدت البرازيل إصلاحات من شأنها تعزيز سيادة القانون وضمان تطبيقه حتى على الرؤساء والنخب السياسية.
ومن الضرورى الإشارة أيضًا إلى الدور الذى لعبته اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، وكذلك اتفاقية منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية بشأن مكافحة الرشاوى الأجنبية، فقد حققتا تقدمًا ملحوظًا على صعيد تعزيز الأُطر القانونية للدول الأعضاء لمكافحة الفساد بأنماطه المختلفة، وخاصة من خلال المتابعات، وما تقدمه تلك المؤسسات من توصيات للدول فى تقاريرها.
ومن المقومات التى عزّزت من قدرة الدول المتقدمة فى مكافحة الفساد: وجود نصوص قانونية واضحة وشفافة وذات جودة عالية فى الصياغة، وفى إقرار العقوبات، بما لا يحتمل التأويل، للحد من الرشوة وتنظيم تضارب المصالح ودعم الشفافية والحوكمة والنزاهة والمساءلة والعقاب والثواب، بالإضافة إلى الوعى العام لدى المواطنين والقبول العام للقوانين الصادرة عن السلطات المختصة، لكون القانون يصدر بالطرق السليمة والمنضبطة، وفقًا لما نص عليها دستور الدولة ومن الجهات الشرعية لها، مما ترتب عليه قبول المواطنين لشرعية تلك القوانين، والتزامهم بها فى ظل علاقة ثقة بين المواطن ودولته؛ فضلا عن التطبيق الصارم للقوانين واللوائح والقواعد على الجميع دون تمييز، حيث إن الجميع سواء أمام القانون وتطبيقه، فلا تمييز على أساس الدين، أو العرق، أو المنصب.
وعلى الرغم من قوة الأُطر القانونية لمكافحة الفساد فى العديد من الدول، حتى مع وجود الضمانات اللازمة لتحقيق سيادة القانون، فإن ممارسات الفساد لاتزال قائمة فى كل الدول بدرجات متفاوتة، مما يشير إلى وجود بعض المعوقات التى تجعل من الصعب القول بوجود دولة ما تخلو تماما من ممارسات الفساد، حتى الدول المتقدمة.
ومن تلك المعوقات الافتقار إلى الأُطر القانونية اللازمة لحماية المُبلغين عن ممارسات الفساد، ومنع تعرضهم للتهديد أو التنكيل بهم، مما يسهم فى رفع معدلات الإبلاغ عن تلك الجرائم، وإعلاء سيادة القانون، ونشير على سبيل المثال لا الحصر إلى حالة البرازيل، حيث لا حماية للمُبلغين عن ممارسات الفساد من انتقام الفاسدين، وقد تم تقديم مشروع قانون خلال عام 2018 ينص على مكافأة المُبلغين عن ممارسات الفساد، إلا أنه لم يدخل حيز التنفيذ بعد. وكذلك الحال فى تركيا التى على الرغم من وفرة ما لديها من قوانين، فلم تكن كافية لردع الفساد، حيث كان القانون يُطبق بنمط انتقائى، كما أن القانون التركى لا يوفر الحماية الكافية لتأمين المُبلغين عن ممارسات الفساد.
ومن أبرز وقائع الفساد فى لوكسمبورج، وهى قضية «لوكس ليكسLux- Leaks «، والتى تعرض فيها ثلاثة مواطنين فرنسيين للسجن فى عام 2014 بتهمة تسريب ملفات ضريبية تكشف عن وقائع فساد مالى لإحدى أكبر الشركات متعددة الجنسيات العاملة فى لوكسمبورج، فقد تعرض المبلغون للسجن بدلا من مُعاقبة الفاسدين، مما يشير إلى الافتقار إلى وجود حماية قانونية للمبلغين عن قضايا الفساد، ليس فى لوكسمبورج وحدها بل أيضًا فى جميع دول الاتحاد الأوربى، وهو ما يحتاج إلى المعالجة والتعزيز.
كما أنه من بين المعوقات كذلك فى الأُطر القانونية للدول، عدم وجود تعريف لأنماط مختلفة من الرشاوى، مما يعنى غياب القواعد القانونية اللازمة لتنظيمها، والحيلولة دون وقوعها، مثل الأُطر القانونية البرازيلية التى لا يوجد بها تعريف صريح للرشوة الخاصة.
ويُعد التدخل الحكومى فى مكافحة الفساد من أكبر العقبات التى تؤثر سلبُا فى جهود هذه المكافحة، الأمر الذى يتضح فى حالة تركيا من خلال غياب المُحاسبة عن ممارسات الفساد التى يرتكبها أفراد أسرة أردوغان والمنتمون إلى نخبته الحاكمة. فعلى الرغم من قوة الأطر القانونية وسيادتها الفعلية على أرض الواقع، فإن العديد من أفراد الحكومة قد كُشف عن تورطهم فى بعض وقائع الفساد، مع اتهام الحكومة بالتدخل فى بسيطرتها على السلطات الثلاثة والتأثير عليها وفقا لما ترغب به السلطة الحاكمة.
وختاما، فإنه لا بد من تعزيز سيادة القانون لمكافحة الفساد، ووجود الضمانات اللازمة لتحقيق هذه السيادة فعليًّا، بالإضافة إلى المتابعة المستمر لسياسة وآليات مكافحة الفساد لإصلاح المسار أولا بأول فى ظل بيئة اقتصادية وسياسية ومؤسسية ملائمة يتمتع فيه القضاء بالاستقلال التام والعدالة الناجزة مع وجود فصل بين السلطات الثلاثة وفعالية نظم الرقابة فيما بينها وسيادة القانون على الجميع دون استثناءات وإعادة هيكلة المحاكم وميكنتها وتسريع وتيرة الإجراءات بها لتتحقق العدالة وفى وقتها.
ومانبغى إلا إصلاحا وتوعية..