النمو الهائل فى جنوب شرق آسيا يحمل دروسا للمناطق الفقيرة الأخرى
عندما يتعلق الأمر بالتنمية الاقتصادية، فإن نجاح الصين المذهل يستحوذ على قدر كبير من الاهتمام، فى حين أن منطقة جنوب شرق آسيا بدأت بهدوء ما يشبه مرحلة جديدة من النمو الهائل.
ومن المؤكد أن الإثراء المستمر لهذه المنطقة سيغير العالم وسينطوى على دروسا هامة بالنسبة للدول المناضلة، مثل تلك الموجودة فى أفريقيا.
وكانت منطقة جنوب شرق آسيا مستعمرة بالكامل تقريبا على أيدى القوى الأوروبية، وجزء كبير منها دُمر بفعل سلسلة من الحروب والصراعات الداخلية فى منتصف القرن العشرين، كما أن تلك المنطقة لا تزال فقيرة إلى حد كبير، لكن هناك بعض الاستثناءات الملحوظة، مثل سنغافورة الغنية وتايلاند وماليزيا متوسطة الدخل.
وشهدت فترة السبعينيات والثمانينيات نموا متفاوتا للغاية فى جميع أنحاء المنطقة، بينما كانت الأزمة المالية الآسيوية فى عام 1997 انتكاسة وحشية وطويلة الأمد.
وفى العقد الأول من القرن الـ21، بدأت الصين إحراز تقدما، بينما بدت جنوب شرق آسيا وكأنها فى حالة ركض فى المنافسة، لكن فى العقد الثانى من القرن الحالى، تسارع النمو فى جميع أنحاء المنطقة.
وكانت المكانة البارزة وسط تلك الدول مخصصة لفيتنام، التى تضاعفت مستويات المعيشة فيها الآن خمس مرات تقريبا منذ عام 1990، ولكنها تعثرت بالكاد بعد عام 1997، ثم تسارعت مرة أخرى فى الأعوام الأخيرة، بحسب ما قاله كاتب مقالات الرأى نواه سميث فى مقال نشرته وكالة أنباء “بلومبرج”.
واشتهرت فيتنام باتباعها كثير من القواعد، كتلك التى تتبعها الصين، فعلى سبيل المثال تحرير اقتصادها وخصخصة الشركات المملوكة للدولة وتعزيز التصنيع والصادرات وخفض قيمة عملتها وغيرها من الإجراءات، واستفادت الدولة الآسيوية من الشركات، التى تتطلع لتنويع عملياتها خارج الصين، خاصة خلال الحرب التجارية الأخيرة.
ومع ذلك، فيتنام ليست سوى الدولة الأفضل بين مجموعة قوية جدا، حيث يبدو أن إندونيسيا والفلبين تدخلان الآن أيضا مرحلة من النمو المتسارع، فى ظل تضاعف الدخل منذ مطلع القرن.
وفى الوقت نفسه، تسجل لاوس وكمبوديا وميانمار نموا قويا أيضا، كما أن هناك قصة نجاح أخرى بالقرب من بنجلاديش، التى تُحتسب عادة ضمن جنوب آسيا لكنها تتمتع بطفرة نمو تشبه إلى حد كبير جيرانها فى جنوب شرق آسيا.
وأظهرت بعض المقاييس أن بنجلاديش أصبحت الآن أكثر ثراء من جارتها العملاقة الهند، التى تعثر اقتصادها فى الأعوام القليلة الماضية.
ومع ذلك، من المهم تذكر أن كل هذه الدول لا تزال فقيرة، وحتى بعد تعديل الأسعار المحلية، لم تستطع تلك الدول الاقتراب من ثراء بلد متقدم، مثل كوريا الجنوبية.
وحتى لو تمكنت من الحفاظ على معدلات نموها القوية الحالية، لن تصل هذه الدول إلى وضع الدول المتقدمة حتى منتصف القرن تقريبا، وهو الأمر الذى سيترتب عليه تحديات ضخمة أخرى، خاصة التحديات البيئية، بالإضافة إلى ارتفاع الانبعاثات الكربونية، حيث تُعتبر منطقة جنوب شرق آسيا مصدرا رئيسيا بالفعل للنفايات البلاستيكية المحيطية.
ومع ذلك، يعتبر نمو منطقة بأكملها إنجازا مذهلا ويظهر نجاح إنهاء الاستعمار والعولمة، مما يقودنا إلى سؤال كبير آخر: كيف استطاعت المنطقة تحقيق مثل هذا النجاح؟
الجواب البسيط وهو تطور دول جنوب شرق آسيا بنفس طريقة الدول الأخرى قبل عقود أو قرون من الزمن، فالنمط الأساسى والمعروف الآن يدور حول انتقال الناس من المزارع إلى المدن لصنع سلع رخيصة الثمن، مثل الملابس والألعاب والأثاث والنسيج، ثم الارتقاء بسلسلة القيمة إلى الإلكترونيات وقطع غيار السيارات وما إلى ذلك.
وتعتبر إندونيسيا، التى تعثرت عمليات التصنيع لديها بعد الأزمة المالية الآسيوية فى نهاية التسعينيات، استثناء، رغم أنها لا تزال تقوم بقدر معقول من التصنيع، ومع ذلك، تعتبر هذه الإجابة البسيطة غير مرضية.
ما هى السياسات التى سمحت لهذه الدول بالقفز إلى سلاسل التصنيع العالمية؟
فى يوم من الأيام، ربما يجرى المؤرخون الاقتصاديون دراسات متعمقة تكشف إصدار جميع دول جنوب شرق آسيا لإجراءات متشابهة جدا فى الوقت نفسه، أو ربما كانوا جميعا فى المكان المناسب فى الوقت المناسب.
ومع ارتفاع الأجور والتكاليف الأخرى فى الصين، بدأت الشركات متعددة الجنسيات فى البحث عن مصادر أحدث وأرخص للسلع المصنعة، وبالتالى وجد أن دول جنوب شرق آسيا تتمتع بأجور رخيصة وتقع على مقربة من الصين، مما يتطلب أدنى حد من النقل الجغرافى لطرق الشحن والموظفين.
بالإضافة إلى ذلك، تتمتع الدول الغنية، مثل اليابان وتايوان وكوريا الجنوبية، بالفعل بعلاقات قوية مع العديد من هذه الدول، ويمكن أن تشكل مصدرا للاستثمار وأسواق لسلع جنوب شرق آسيا.
ومثل قطيع الأوز، انتقل المصنعون وتجار التجزئة ببساطة إلى حيث كان من المنطقى التحرك، وهو الأمر الذى يتناسب أيضا مع نظرية التكتل الاقتصادى، التى تشير إلى تطور المناطق واحدة تلو الأخرى بدلا من الكل فى نفس الوقت.
ونظرا لأن آسيا أصبحت المركز الاقتصادى للعالم، استطاعت المنطقة بأكملها جنى الفوائد فى نهاية المطاف.
ويعتبر هذا الأمر محبطا بالنسبة لأفريقيا، التى ربما تضطر إلى انتظار دورها لتكون نقطة التصنيع التالية، نظرا لوقوعها بعيدا عن آسيا المزدهرة، كما أن أفريقيا تفتقر لوجود دول صناعية غنية للمساعدة فى بدء تنميتها، بمعنى آخر لا تمتلك القارة السمراء دول مثل اليابان أو سنغافورة.
وهذا الأمر لا يعنى أن أفريقيا لن تشهد عمليات التصنيع، بل إن الاستثمار هناك آخذ فى النمو، خاصة من جانب الصين.
والجدير بالذكر أن أفريقيا بحاجة إلى اليابان الخاصة بها، أى أنها بحاجة إلى دولة رائدة يمكنها التصنيع أولا ثم الاستثمار فى بقية القارة، وربما تكون هذه الدولة هى غانا، التى تتمتع بمؤسسات قوية واستقرار سياسى وتعليم جيد ومحو أمية.
وعلى الرغم من أن أفريقيا قد تضطر انتظار بعض الوقت لتتبع خطى جنوب شرق آسيا، إلا أن ذلك لا ينبغى أن يمنع الدول الأفريقية الفردية من بذل جهد للتصنيع بمفردها.