أعترف بأهمية المشروعات القومية في تنمية الاقتصاد القومي، والتي لولاها لانخفضت معدلات نمو الاقتصاد المصري، فمن خلال المشروعات القومية استطعنا توفير مئات الآلاف بل الملايين من فرص العمل لمختلف فئات القوى العاملة، بدءاً من العامل البسيط ووصولاً إلى أدق التخصصات العلمية، وهو ما ساهم في استمرارية عجلة الإنتاج الصناعي لمستلزمات الإنتاج المحلية ودعم روابط العلاقات الدولية من خلال استيراد ما تبقى من مستلزمات ضرورية لإتمام تلك المشروعات، فتلك المشروعات تركز بصورة رئيسية على تنمية البنية التحتية لمختلف محافظات الجمهورية، وهو الأمر اللازم لجذب مزيد من الاستثمارات المحلية منها والأجنبية.
وعلى الرغم من الأهمية القصوى للمشروعات القومية، والتي كان لوجودها ضرورة اقتصادية في تلك الفترة الحرجة من تاريخ مصر، وذلك بهدف تدعيم الاقتصاد الوطني والحفاظ على كيان الدولة المصرية من الانهيار الذي أعقب أحداث عام 2011، إلا أن الكثير من الأصوات، والتي إذ ربما يكون منها عدد من الاقتصاديين، كانت تنادي بصفة مستمرة بأهمية وجود مشروعات إنتاجية، غافلين أو متغافلين عن أن مشروعات البنية التحتية في حد ذاتها هي القوة الدافعة لأنشطة الإنتاج المحلي.
وفي ذات السياق التنموي دار حديث شيق بيني وبين إحدى صديقاتي المهاجرات إلى الولايات المتحدة الأمريكية، فعلى الرغم من أن هجرتها جاءت منذ عدة أعوام وحصلت خلالها على الجنسية الأمريكية، إلا أنها لازالت تحمل هموم الوطن وتغار عليه وتفكر في سبل عملية لتدعيم تنميته، لتسرد لي تجربة قام بها أحد الأشخاص، ومضمون تلك التجربة هي محاولة أحد المغامرين السير على الأقدام بموازاة نهر النيل في مصر، ليبدأ المغامر من البحر المتوسط وينتهي بالحدود مع السودان، لتوضح لي الصعاب التي وجدها هذا المغامر من مروره بعقبات كثيرة كادت أن تحول بينه وبين إتمام مغامرته لولا إصراره، ومفاد تلك التجربة أنه لا يوجد طريق متصل موازي لنهر النيل يصلح للسير ويربط ما بين الشمال والجنوب.
لينطلق حديثنا إلى مستوى آخر من التفكير المشترك، ألا وهو جدوى العائد الاقتصادي الذي يمكن أن يتحقق لمصر، إذا ما تم تنفيذ طريق صالح للسير على الأقدام رابطاً بين المدن والمحافظات على طول نهر النيل، ليبدأ من البحر المتوسط شمالاً وينتهي بنهاية حدودنا مع السودان، ليسير هذا الطريق بالتوازي مع نهر النيل أسوة بتجربة Chicago Lakeshore trail.
لنسرح بمخيلتنا حول ما يمكن أن يحققه هذا المشروع من عوائد مختلفة إذا ما تم تنفيذه بدقة، ليأتي العائد على كافة الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والرياضية والسياحية، فهذا الطريق أو الممشى سيكون طريقاً متصلاً بطول نهر النيل في مصر، والفكرة في حد ذاتها ستقابل عالمياً باهتمام، ليتم استغلالها سياحياً لجذب السياحة المحلية والأجنبية إلى جميع المحافظات المطلة على نهر النيل، كما إنه يمكن أن يكون متنفس لسكان المحافظات أنفسهم ويحقق عائد ترفيهي، ويمكن أن يحقق عائداً رياضياً ليتم استغلاله في إقامة سباقات الجري أو الدراجات بين المحافظات، ويمكن الترويج له دولياً بمشاركة دول أخرى، كما أنه يمكن أن يكون منفذ ترويجي لمنتجات تلك المدن والقرى والمحافظات من خلال إقامة معارض دائمة بصورة منظمة وآمنة، وهو الأمر الذي سينعكس إيجابياً على المستوى المعيشي لسكان تلك المناطق، أخذاً في الاعتبار أن ضفاف نهر النيل مكدسة بالآثار الفرعونية التي تم اكتشافها وتقبع في المخازن أو مازالت في مرحلة الاكتشاف، والتي إذ ربما لا تجد مساحة لاستيعابها سواء في المخازن أو المتاحف، وتمنينا أن يتم بناء متاحف أثرية متفرقة على طول هذا الممشى ليستوعب عظمة وحضارة أجدادنا، لينتهي حوارنا بتبادل عدد من المقاطع المسجلة لأفكار أمريكية مماثلة يمكن أن يتم الاقتباس هندسياً منها وتطويرها بما يتلاءم مع الواقع المصري، لنغلق الحوار بالدعاء إلى وطننا بالرخاء والأمان، والتنمية الاقتصادية الشاملة.
لأبدأ رحلة تفكيري في إمكانية تنفيذ هذا المشروع بالتحدث مع المتخصصين وأصحاب الخبرة، لأصل إلى أن مصر قد بدأت بالفعل في تنفيذ ممشى متعدد المراحل على ضفاف نهر النيل بالقاهرة، وآخر في أسوان على ذات النمط الاقتصادي الذي كنا نحلم بتنفيذه وربما يفوق، وبالحديث مع المتخصصين توصلت إلى أن التكلفة الاقتصادية والبيئية للمشروع بطول نهر النيل ستكون مرتفعة للغاية، نظراً لتدميرها نسبة كبيرة من الرقعة الزراعية المتاخمة لنهر النيل، والتي من المفترض أن يمر بها الممشى، إلا أن الفرص الممكنة تمثلت في فرصتين، الفرصة الأولى في إمكانية اقتراح التوسع شمالاً بدءاً من ممشى أسوان، ليضم الأقصر ووصولاً إلى قنا على سبيل المثال، والفرصة الثانية جاءت في مقترح أكثر شمولاً يتمثل في إنشاء طريق طولي على الضفة الغربية لنهر النيل، يبدأ من العلمين ويتجه جنوباً، على أن يتصل بعدة طرق عرضية، قد يصل عددها إلى ستة طرق تربط بين الطريق المقترح من الشمال والجنوب وبين المحافظات المطلة على نهر النيل وهي القاهرة، والفيوم، المنيا، أسيوط، الأقصر وأسوان، وتكمن أهمية الطرق في تيسيرها لفرص تعمير الصحراء الغربية من الشمال إلى الجنوب وتوفيرها لفرص التوسع العمراني الغربي للمحافظات المطلة على نهر النيل، ومن ثم الإسهام في تحقيق الأهداف المتعددة التي تم سردها مسبقاً، ليحافظ الحليوة الأسمر “نهر النيل” على مكانته عبر العصور في كونه نقطة الانطلاق الرسمية للتنمية في مصر على جميع الأصعدة.
بقلم د/ شيماء سراج عمارة
خبير اقتصادي
[email protected]