المنطقة ستشكل نصف النمو فى الاستهلاك الحضرى العالمى 2030
لطالما شكلت سلاسل القيمة العالمية، العمود الفقرى للنمو الاقتصادى والتجارة، خصوصاً فى شرق آسيا، وناشدت تكاليف التصنيع الأرخص، بسبب الأجور المنخفضة، ووفرة المواد الخام، بشدة الشركات الغربية متعددة الجنسيات التى تسعى إلى إقامة قواعدها فى الخارج.
وشهدت الاقتصادات الإقليمية فى شرق آسيا نمواً اقتصادياً سريعاً على مدى العقود العديدة الماضية، بدعم من التدفقات القوية للاستثمار الأجنبى المباشر. كما حاولت الاقتصادات الأخرى تكرار استراتيجية النمو هذه، حتى فى ظل تفشى جائحة فيروس كورونا المميت، وفقاً لمجلة «نيكاى آسيان ريفيو» اليابانية.
ويجادل البعض بأن الوباء يمثل نهاية العولمة، إذ أدت الحدود المغلقة إلى منع شحن العديد من السلع والمواد الخام من شرق آسيا، ما أدى إلى توقف الإنتاج، وتقليص المعروض فى أماكن بعيدة مثل أوروبا، وأدت الاضطرابات فى الشحن إلى تفاقم النقص، خاصة فى السلع الأساسية.
وبالتالى، فقد نظرت الشركات فى إعادة تنظيم مشاريع الاستثمار الأجنبى المباشر الحالية، أو حتى إلغاء المشاريع المخطط لها؛ لأنها تتطلع إلى معالجة الروابط الضعيفة فى سلاسل الإمداد الخاصة بها.
فى مواجهة العدوى المتجددة، واحتمال انعكاسات الاستثمار، يبدو أن معظم اقتصادات شرق آسيا هى النهاية الخاسرة لـ«كوفيد- 19».
ومع ذلك، لا تشير إحصاءات الاستثمارـ حتى الآن ـ إلى نقل سلاسل القيمة العالمية بالجملة خارج شرق آسيا. ومن غير المحتمل، أيضاً، أن الابتعاد عن المنطقة بشكل كبير خلال العقود القليلة القادمة، وهناك أسباب مختلفة لذلك.
السبب الأول هو أن تكرار النظم الإيكولوجية العميقة والمعقدة لسلسلة التوريد فى شرق آسيا، والتى تم تعزيزها على مدى ثلاثة عقود، سيحتاج تكاليف باهظة ويتطلب موارد كبيرة.
والأهم من ذلك، أنَّ إعادة إنشاء سلاسل القيمة العالمية الفعالة ستتطلب بناء الثقة والكفاءة التشغيلية بين الشركات والمشترين والموردين الجدد على مدى فترة طويلة من الزمن.
والسبب الثانى هو وفرة الأيدى العاملة، وانخفاض تكاليف العمالة فى شرق آسيا، بجانب البنية التحتية الفعالة والوصول العالى إلى الأسواق، يجعلها مكاناً رائعاً لاستثمارات سلسلة القيمة العالمية.
وفى حين أن المنافسين الأفارقة قد يقدمون عمالة أرخص، فإنَّ مستويات مهاراتهم تعتبر منخفضة نسبياً مقارنة بتلك الموجودة فى شرق آسيا.
وبينما قد تتمتع الاقتصادات الناشئة فى أوروبا ببنية تحتية ومهارات عمل أفضل، فإنَّ تكاليف العمالة المرتفعة تمنح اقتصادات شرق آسيا ميزة تنافسية.
أما السبب الثالث، فيتمثل فى أن فكرة الانتقال بعيداً عن شرق آسيا قد يعنى ضياع الفرص التى تتيحها الطبقة المتوسطة سريعة النمو. فقد أدى ظهور المصانع الآسيوية بالفعل إلى تأسيس القدرة التنافسية للمنطقة فى مجال التصنيع، كما أن الزيادة السريعة فى دخول الأسر فى شرق آسيا تقود التسوق فى آسيا، والتى ستستمر فى جذب الشركات متعددة الجنسيات لتصنيع السلع فى المنطقة لتلبية طلبات الطبقة المتوسطة المتزايدة.
بحلول عام 2030، يمكن أن تمثل شرق آسيا ما يقرب من نصف نمو الاستهلاك الحضرى العالمى. ويمكن للطبقة الوسطى الآخذة فى النمو فى الصين أن تستهلك أكثر من 10 تريليونات دولار من السلع والخدمات سنوياً، بينما يمكن أن ترتفع الطبقة الوسطى فى جنوب شرق آسيا بحدة إلى أكثر من 160 مليون أسرة.
بالنسبة لشركة متعددة الجنسيات، أصبح التواجد فى شرق آسيا ضرورة لجنى فوائد هذه الإمكانات الاستهلاكية. ويعتبر وجود شركات صناعة سيارات أجنبية فى الصين- أكبر منتج للسيارات فى العالم ومعظمها للاستخدام المحلي- أحد الأمثلة الجيدة على ذلك.
أخيراً، يعد الاستيعاب التكنولوجى القوى واحتضان التحول الرقمى فى شرق آسيا ميزة فى عالم رقمى متزايد. وحتى قبل الوباء، كانت شرق آسيا بالفعل موطناً للعديد من عمالقة التكنولوجيا وأصحاب براءات الاختراع الرئيسيين، بجانب سكانها الشباب وذوى الخبرة فى مجال التكنولوجيا، فهى فى وضع جيد لجذب سلاسل القيمة العالمية القائمة على التكنولوجيا والاستفادة منها.
وفى سعيها لتحقيق النمو، يجب ألا تعتمد شرق آسيا على أمجادها السابقة وأن تستمر فى التطور.
ومن المؤكد أن تكاليف العمالة المنخفضة ستكون جذابة دائماً، لكن الوباء أظهر أن جودة المؤسسات ورأس المال البشرى والبنية التحتية قد تفوق اعتبارات التكلفة عندما يتعلق الأمر باستراتيجيات سلسلة القيمة العالمية.
كما أن شرق آسيا بحاجة أيضاً إلى ترقية نفسها بسرعة للحفاظ على دورها فى سلاسل القيمة العالمية لما بعد الوباء، تلك التى تعتمد على الكفاءة والمرونة والتكنولوجيا، وليس فقط على التكلفة.
ويجب أن تتبنى الحكومات سياسات هادفة ومصممة جيداً لجنى الفوائد طويلة الأجل لسلاسل القيمة العالمية، فهم بحاجة إلى الاستثمار فى البحث والتطوير، واستخدام حماية أقوى لحقوق الملكية الفكرية، وجعل الرقمنة شاملة، والدفع نحو تكامل إقليمى أوثق، ضمن أمور أخرى ينبغى فعلها.
مع ذلك، سيتوقف النجاح على صنع سياسات استباقية ومرنة، ويجب على السلطات صياغة استراتيجيات تركز على البنية التحتية المستهدفة للثورة الصناعية الرابعة، وأطر سياسات الأزمات الأكثر مرونة، والسياسات المستدامة بيئياً.
فى الواقع، ستخضع سلاسل القيمة العالمية لتغييرات كبيرة بعد جائحة كورونا، لكن شرق آسيا ستظل موقعاً مهماً للتنمية بالنسبة للعالم، بفضل أساسيات الاقتصاد الكلى القوية والنظام الإيكولوجى العميق لسلاسل التوريد والإطار المنضبط للسياسات.