في الوقت الذي تسعى فيه إلى التنافس مع الصين، هل يمكن للولايات المتحدة استعادة مكانتها المهيمنة في السابق كمهندس تجاري لآسيا؟.. فبعد الانسحاب من صفقة إقليمية كبرى وإظهار ميل ضئيل لقيادة إنشاء الصفقات الأخرى، كانت الإجابة حتى وقت قريب تبدو “لا” بشكل واضح.
تشير التقارير التي تفيد بأن الولايات المتحدة تستعد لاقتراح اتفاقية تجارة رقمية آسيوية جديدة، إلى أن هذا الاستنتاج قد يكون سابقاً لأوانه، فمن المرجح أن يتم الترحيب بحقيقة أن الرئيس الأمريكي جو بايدن يفكر في مثل هذا الاقتراح في منطقة تكافح للعثور على مصادر جديدة للنمو بعد الوباء.
لكن .. “هل يمكن أن يمثل هذا الترحيب بعد ذلك الخطوة الأولى في إعادة مشاركة اقتصادية أوسع نطاقاً وتصبح مناسبة لكبح نفوذ بكين؟”
لا تزال الإجابة يعيدة عن الوضوح.
أشارت مجلة “نيكاي آسيا ريفيو” اليابانية، إلى أن مركز أمريكا المتضائل في التجارة الآسيوية لا يعتبر موضع شك.. فالصين هي الشريك التجاري الرائد لكل دولة في المنطقة، وكانت سريلانكا والفلبين آخر من قام بتشغيل مفتاح العودة مرة أخرى في عام 2012.
وكان قرار واشنطن بالانسحاب من الاتفاقية الشاملة والتقدمية للشراكة عبر المحيط الهادئ في عام 2017 بنفس قدر الأهمية، فقد تخلت عن موقعها كلاعب مهيمن في السياسة التجارية في آسيا.
إن تفاصيل أي خطة رقمية أمريكية محتملة غامضة. لكن بمجرد النظر في الفكرة تشير واشنطن إلى أنها لا تزال لديها طموحات لتعميق التكامل التجاري الإقليمي، وإن كان ذلك بعد توقف دام نصف عقد من الزمان.
ويعتبر هذا الأمر جزءاً من وظيفة الضرورة الجيوسياسية، حيث يدرك صناع السياسة في الولايات المتحدة أنهم بحاجة إلى نظام حكم اقتصادي جديد لمنافسة التقدم السريع للصين.
وفي الوقت الحالي، عندما يتحدث فريق بايدن عن الاقتصاد، فمن المرجح أن يفعلوا ذلك بطرق تجعل الحياة أكثر صعوبة بالنسبة للشركاء المحتملين، وليس أسهل، بداية من الهجمات على شركات التكنولوجيا الصينية وحتى الحديث عن استئصال جذور سلاسل الإمداد الإقليمية.
وذكرت المجلة أن هذه الحاجة إلى أجندة اقتصادية أكثر إيجابية مفهومة جيداً من قبل كورت كامبل، وهو منسق مجلس الأمن القومي الأمريكي لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ.
وقبل شغل دوره الحالي، شارك كامبل في تأليف مقال يقارن التحديات الأمريكية المعاصرة في آسيا بالمهمة التي يواجهها رجال الدولة الأوروبيون الذين يسعون لتحقيق توازن قوى جديد في القرن التاسع عشر.
فقد كتب كامبل: “على النقيض من مفاوضات أوروبا، التي أكدت على الحدود والاعتراف السياسي، فإن تلك الموجودة في المحيطين الهندي والهادئ ستدور حتماً حول سلاسل الإمداد والمعايير وأنظمة الاستثمار والاتفاقيات التجارية”.
لن يكون تقديم هذه الأفكار أمراً سهلاً، كما أن واشنطن لم تقل حتى الآن شيئاً علنياً عن خطتها المطروحة، لكن يمكن لصفقة جديدة متعددة الدول في سياق اتفاقية شراكة الاقتصاد الرقمي، وهي صفقة ثلاثية الدول بين سنغافورة ونيوزيلندا وتشيلي، أن تقدم نموذجاً واحداً.
كما تقدم اتفاقية رقمية ثنائية حديثة بين سنغافورة وأستراليا أدلة على ما قد يحتويه أي اقتراح أمريكي.
مع ذلك، من أجل تطوير وبيع اتفاقية جديدة، يجب على الولايات المتحدة أولاً أن تتعامل مع ثلاثة تحديات، أولها: ماذا ومن يجب أن تشمله هذه الاتفاقية.
إذا كانت الولايات المتحدة تريد حقاً تعزيز التجارة الرقمية في آسيا، فيجب أن تكون الخطوة الأكثر وضوحاً هي الانضمام من جديد إلى الاتفاقية الشاملة والتقدمية للشراكة عبر المحيط الهادئ، والتي تتضمن قواعد بشأن كل شيء بدءاً من إلغاء الرسوم على المنتجات الرقمية إلى ضمان التدفق الحر للبيانات. ومع ذلك، يبدو هذا مستحيلاً سياسياً على المدى القريب في ظل المعارضة الداخلية العميقة.
التحدي الثاني هو أن الولايات المتحدة تواجه عقبات داخلية هائلة حتى اقتراح مثل هذه الصفقة علناً، ناهيك عن إبرامها.
أما التحدث الثالث والأخير، فهو يتمثل في الصين ذات نفسها، حيث بدا أن الرئيس الصيني شي جين بينج هاجم بشكل غير مباشر الاقتراح الأمريكي الشهر الماضي، مشيراً في خطاب ألقاه إلى أن القواعد الرقمية الجديدة يمكن أن تؤدي إلى “الإقصاء والمواجهة والانقسام”.
ربما يجد بايدن، بدوره، أنه من الأسهل التغلب على مشاكله المحلية المناهضة للتجارة إذا صاغ أي صفقة مستقبلية كجزء من محاولات أوسع لضبط نفوذ الصين، لكن فعل ذلك سيجعل الصفقة أقل جاذبية بكثير للشركاء الآسيويين المحتملين، الذين يخشى الكثير منهم إغضاب بكين.
جدير بالذكر أن التغلب على هذه التحديات الثلاثة سيتطلب نوعاً من فن الحكم الجديد الماهر الذي ناقشه كامبل في مقالته.
وتحتاج اقتصادات آسيا إلى قواعد رقمية جديدة، والتي تتمتع الولايات المتحدة بوضع جيد للمساعدة في صياغتها، كما أن كامبل وآخرون محقون أيضاً في أن الولايات المتحدة بحاجة إلى أجندة اقتصادية ذات مصداقية إذا كانت ستحاول موازنة القوة التجارية الصاعدة للصين.
خلال العقد الماضي، حلت الصين إلى حد كبير محل الولايات المتحدة كمهندس التجارة في المنطقة، ومن غير المرجح أن تستعيد الولايات المتحدة موقفها بأنصاف الإجراءات.