ملايين الأشخاص سيشعرون بآثار ارتفاع أسعار الغاز الطبيعى الشتاء المقبل
من المتوقع أن يتصارع العالم على شىء غير مرئى هذا الشتاء، إذ تشكل إمداداته المنخفضة ناقوس خطر، وتعتمد الدول أكثر من أى وقت مضى على الغاز الطبيعى؛ لتدفئة المنازل، وصناعات الطاقة وسط الجهود المبذولة للإقلاع عن الفحم، وزيادة استخدام مصادر الطاقة الأنظف.. لكن لا يوجد ما يكفى من الغاز لتغذية تعافى ما بعد الجائحة، وإعادة ملء المخزونات المستنفدة قبل الأشهر الباردة.
وتحاول الدول المزايدة على بعضها البعض على الإمدادات مع تحرك المصدرين مثل روسيا؛ للاحتفاظ بمزيد من الغاز الطبيعى داخل أراضى الوطن، ومن المتوقع أن تزداد الأزمة سوءاً عند انخفاض درجات الحرارة.
وهذه الأزمة التى تعانى منها أوروبا تنذر بمتاعب فى باقى أنحاء العالم، إذ أدى نقص الطاقة فى القارة إلى تحذير الحكومات من انقطاع التيار الكهربائى، وإجبار المصانع على الإغلاق، حسبما ذكرت مجلة «بلومبرج بيزنس ويك»، التابعة لوكالة أنباء «بلومبرج».
وتعتبر المخزونات فى مرافق التخزين الأوروبية عند مستويات منخفضة تاريخياً فى هذا الوقت من العام، كما أن تدفقات خطوط الأنابيب من روسيا والنرويج كانت محدودة، وهذا مقلق؛ لأن الطقس الأكثر هدوءاً خفَّض إنتاج توربينات الرياح، بينما يتم التخلص التدريجى من المحطات النووية القديمة فى أوروبا، وبالتالى فإنَّ الغاز يعتبر ضرورياً.
ومن هذا المنطلق، لا عجب فى أن أسعار الغاز الأوروبية ارتفعت بنسبة 500% تقريباً العام الماضى، ويتم تداولها بالقرب من مستوى قياسى.
وتسبب الارتفاع المفاجئ فى الأسعار، فى إجبار بعض منتجى الأسمدة فى أوروبا على خفض الإنتاج، ومن المتوقع أن يليه مزيد من الخفض، ما يهدد بزيادة التكاليف التى يتحملها المزارعون، وربما زيادة تضخم أسعار الغذاء العالمية. وفى المملكة المتحدة، أجبرت أسعار الطاقة المرتفعة، العديد من الموردين على التوقف عن العمل.
حتى الشتاء البارد عادة فى نصف الكرة الشمالى، يتوقع أن يؤدى إلى ارتفاع أسعار الغاز الطبيعى بشكل أكبر فى معظم أنحاء العالم.
فى الصين، قد يستجيب المستخدمون الصناعيون، بما فى ذلك صناع السيراميك، والزجاج، والأسمنت، من خلال رفع الأسعار، وستواجه الأسر البرازيلية فواتير كهرباء باهظة الثمن، كما يمكن للاقتصادات التى لا تستطيع تحمل تكلفة الوقود، مثل باكستان أو بنجلاديش، ببساطة التوقف عن العمل.
وأشارت المجلة الأمريكية إلى أن المرافق وصناع السياسات يصلون من أجل درجات حرارة معتدلة؛ لأن الأوان قد فات بالفعل لتعزيز الإمدادات.
وأوضحت أن احتمالية تسريع تكاليف الطاقة، بالتزامن مع تقلص سلاسل الإمداد، وارتفاع أسعار المواد الغذائية عند أعلى مستوياتها فى عقد من الزمان، قد تثير تساؤلات المزيد من مسئولى البنوك المركزية عما إذا كانت قفزة التضخم مؤقتة كما كانوا يأملون.
كما أن التجار سيحللون بعناية كل توقعات الطقس التى تُنشر من الآن وحتى ديسمبر.
قال أموس هوشستين، كبير مستشارى وزارة الخارجية الأمريكية لشئون أمن الطاقة، فى مقابلة أجراها مع «تليفزيون بلومبرج» فى 20 سبتمبر: «إذا كان الشتاء بارداً بالفعل، فإن ما يقلقنى هو أنه لن يكون لدينا ما يكفى من الغاز لاستخدامه فى التدفئة فى أجزاء من أوروبا».
وبالنسبة لبعض الدول، «لن يكون الاتجاه انكماشياً فحسب.. بل إنَّ الأمر سيؤثر بالفعل على القدرة على توفير الغاز للتدفئة، فهذه الأزمة تمس حياة الجميع».
فى آسيا، يدفع مستوردو الغاز الطبيعى المسال أسعاراً قياسية، خلال هذا الوقت من العام؛ لتأمين الإمدادات، وبدأ البعض فى اقتناص أنواع الوقود الأكثر تلوثاً مثل الفحم، وزيت التدفئة، حال عدم حصولهم على ما يكفى من الغاز. وهذا الأمر من شأنه تقويض الجهود التى تبذلها الحكومات لتحقيق الأهداف الخضراء الطموحة؛ حيث يتسبب الغاز فيما يقرب من نصف الانبعاثات الكربونية التى تنتج عن الفحم عند حرقه.
أما الصين، أكبر مشترٍ للغاز الطبيعى فى العالم، فلم تستطع ملء المخزونات بالسرعة الكافية، رغم أن الواردات تضاعفت تقريباً عما كانت عليه فى العام الماضى، بحسب البيانات الجمركية.
يذكر أن العديد من المقاطعات الصينية ترشد بالفعل الكهرباء للصناعات؛ لتلبية أهداف الرئيس شى جين بينج لكفاءة الطاقة وخفض التلوث، وقد تؤدى أزمة الكهرباء إلى تفاقم عمليات الإغلاق إذا حولت السلطات الغاز إلى الإضاءة وتدفئة المنازل.
وإذا اضطرت المصانع الصينية إلى مواجهة نقص واسع النطاق فى الطاقة، فإنَّ الأسعار العالمية للصلب والألومنيوم سترتفع، وما زاد الطين بلة، أن البلاد تعانى أيضاً نقص الفحم.
فى الوقت نفسه، تعتبر المرافق فى اليابان وكوريا الجنوبية محمية إلى حد كبير بعقود الغاز الطبيعى المسال طويلة الأجل.
ومع ذلك، أعلنت شركة كوريا للطاقة الكهربائية، يوم 23 سبتمبر الحالى، أنها سترفع أسعار الكهرباء لأول مرة منذ نحو ثمانية أعوام.
كما أن موجة البرد المفاجئة قد تجبر مزيداً من شركات الطاقة على الدخول فى السوق الفورى لشراء إمدادات الغاز الطارئة بمعدلات قياسية عالية، فهذا ما حدث فى الشتاء الماضى.
مما لا شك فيه أن تكلفة تأمين إمدادات الغاز الطبيعى المسال أثارت جدلاً سياسياً فى باكستان التى تعانى بالفعل ضائقة؛ حيث طالب سياسيون معارضون بفتح تحقيق فى مشتريات المستورد المملوك للدولة.
وفى البرازيل، تسبب أدنى تدفقات شهدها حوض نهر بارانا منذ نحو قرن من الزمان، فى خفض إنتاج الطاقة الكهرومائية، وأجبر المرافق على الاعتماد بشكل أكبر على الغاز.
كذلك، عززت البرازيل وارداتها من الغاز إلى أعلى مستوى لها على الإطلاق فى يوليو، كما أن فواتير الكهرباء آخذة فى الارتفاع، ومع ارتفاع مستويات التضخم المرتفعة بالفعل، قد يضر ذلك بفرص الرئيس جايير بولسونارو فى الانتخابات الرئيسية المقررة العام المقبل.
وذكرت «بلومبرج بيزنس ويك»، أنَّ المسرح تم إعداده ليشهد تزاحماً شديداً بين شحنات الغاز الطبيعى المسال الخاصة بكل من آسيا وأوروبا والشرق الأوسط وأمريكا الجنوبية والقادمة من المصدرين مثل قطر وترينيداد وتوباغو والولايات المتحدة.
وتعليقاً على هذا الأمر، حذر وزير الطاقة القطرى سعد الكعبى، فى مؤتمر صناعى عُقد هذا الشهر، قائلاً: «لدينا طلب كبير من جميع عملائنا، وللأسف لا يمكننا تلبية احتياجات الجميع».
يستعد المصدرون الأمريكيون لشحن مزيد من الغاز الطبيعى المسال بشكل أكثر من أى وقت مضى مع بدء تشغيل مشاريع جديدة فى نهاية العام.. لكن مع انتقال مزيد من الغاز إلى الخارج سيتوفر القليل داخل البلاد.
ورغم أن أسعار الغاز كانت أقل بشكل ملحوظ فى الولايات المتحدة عنها فى أوروبا وآسيا، فإنها تتداول بالقرب من أعلى مستوى لها منذ عام 2014.
كما أن مخزونات الغاز تنخفض عن المتوسط الموسمى لخمسة أعوام، ومع ذلك فإنَّ الحفارات الخاصة بالبترول الصخرى الأمريكى مترددة فى زيادة الإنتاج؛ بسبب الشعور بالقلق الذى من شأنه أن يعيق ربحيتها ويثبط المستثمرين.
وطلبت مؤسسة مستهلكى الطاقة الصناعية فى أمريكا من وزارة الطاقة خفض الصادرات الأمريكية حتى تعود مستويات التخزين إلى وضعها الطبيعى، وهى خطوة من شأنها أن تؤدى إلى تفاقم مستوى النقص فى الخارج.
كان من المعتاد عدم إيلاء اهتمام كبير بسعر السوق للغاز الطبيعي، فهو ليس مثل البترول، الذى عادة ما يتأثر على الفور تقريباً بأى قرار مفاجئ تأخذه منظمة الدول المصدرة للبترول «أوبك».. لكن من المرجح أن يتعلم العالم بأسره هذا الشتاء مدى اعتماد الاقتصاد العالمى على الغاز الطبيعى.