فخ الدخل المتوسط والفشل في تطوير قطاعات قادرة على المنافسة دوليا.. أهم العوائق
من السهل أن ننسى أن أمريكا الجنوبية، وليست آسيا، هي التي كان يُنظر إليها ذات يوم على أنها البؤرة الاقتصادية الساخنة الناشئة في العالم.
كانت العديد من دول المنطقة مزدهرة نسبياً في النصف الأول من القرن العشرين، فعلى سبيل المثال الأرجنتين التي كانت آنذاك واحدة من أغنى دول العالم، وقد حققت معدلات نمو مذهلة في أعقاب الحرب العالمية الثانية مباشرة.
لكن أمريكا الجنوبية تراجعت كثيراً منذ تلك الأيام الصاخبة. فقد كان الناتج المحلي الإجمالي المشترك للمنطقة المقدر بالدولار يبلغ 22% من ناتج الولايات المتحدة في عام 1980 ثم بلغ 17% فقط في عام 2020.
هذا الانخفاض النسبي أكثر وضوحاً على أساس نصيب الفرد، إذ بلغ نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في البرازيل 22%، في حين انخفض الناتج المحلي الإجمالي في المكسيك من 25% إلى 15% خلال الفترة نفسها حسبما ذكرت مجلة “نيكاي آسيان ريفيو” اليابانية.
وفُسر هذا الأداء الضعيف، وما أعقبه من عدم قدرة العديد من دول أمريكا الجنوبية على الإفلات من فخ الدخل المتوسط، من خلال عدد من العوامل الواسعة النطاق لكنها مترابطة.
العامل الأول هو فشل الدول في تطوير هياكلها الاقتصادية وتطوير صناعات قادرة على المنافسة دولياً وتقليل اعتمادها على الصادرات الأولية.
والعامل الثاني هو عدم فعاليتها في معالجة اتساع نطاق مستوى التفاوت الاجتماعي والتفاوت في الدخل.
أما العامل الثالث فيتمثل في عدم الاستقرار السياسي في المنطقة الذي نتج عنه شعبوية على المدى القصير أكثر من التفكير الاقتصادي طويل المدى.
ربما تكون أمريكا الجنوبية بعيدة جغرافياً عن جنوب شرق آسيا، لكن هناك الآن العديد من أوجه التشابه القائمة والناشئة بين المنطقتين.
مثل أمريكا الجنوبية، تكافح دول جنوب شرق آسيا، باستثناء سنغافورة، من أجل تطوير الصناعات الأكثر تقدماً والضرورية للانتقال من التوسع الاقتصادي البسيط القائم على العمالة إلى نمو أكثر استدامة تقوده الإنتاجية.
في الواقع، شهدت العديد من دول جنوب شرق آسيا تراجعاً في التصنيع سابقاً لأوانه نظراً لمواقعها في دورة التنمية، وربما يكون فات الآوان الآن لعكس هذا الاتجاه.
وبالطريقة نفسها فشلت أمريكا الجنوبية في تطوير قطاعاتها التصنيعية في مواجهة المنافسة الأمريكية والأوروبية، ومن شبه المؤكد أن المنتجين في جنوب شرق آسيا سيكافحون ضد الواردات الصينية شديدة التنافسية.
تكمن المشكلة الأساسية في أنه إذا لم تستطع جنوب شرق آسيا تطوير صناعات أكثر تقدماً، فلن تفلت من المستقبل الذي تتخصص فيه في تصدير المواد الخام والمنتجات الزراعية والسلع ذات الطلب المنخفض والسياحة، مع الاعتماد على الواردات المصنعة الأكثر تقدماً من الاقتصاد المهيمن في المنطقة تماماً مثل أمريكا الجنوبية.
وإذا ظهر هذا التقسيم الجغرافي للعمل والتجارة، فإن العواقب طويلة المدى ستكون هي نفسها.
مع ذلك، فإن مثل هذه النتيجة تبدو مرجحة بشكل متزايد، لأن العديد من المكونات الضرورية لمثل هذه التنمية الاقتصادية التي تقودها الإنتاجية ناقصة في معظم أنحاء المنطقة.
ليس هناك نقص في السياسات الصناعية المنسقة إقليمياً فقط- التي تعد هامة إذا أرادت دول جنوب شرق آسيا تطوير هياكل صناعية تكميلية بدلاً من هياكل صناعية- لكن هناك إحجام واسع النطاق عن الاستثمار في رأس المال البشري الضروري.
فعلى سبيل المثال، إندونيسيا وتايلاند والفلبين التي تنفق جميعها أقل بكثير على التعليم كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة بالبرازيل والأرجنتين والمكسيك.
هذا النقص يتغذى على الافتقار إلى الابتكار والتقدم التكنولوجي، وقد يبدو هذا الواقع غريباً بالنسبة للإثارة الحالية بشأن ظهور العديد من منصات الإنترنت الإقليمية، التي غالباً ما تظهر كأمثلة للتقدم في جنوب شرق آسيا، لكن هذه هي الاستثناءات وليست القاعدة العامة.
بطبيعة الحال، لن يكون عدم الاستقرار السياسي أمراً جديداً على جنوب شرق آسيا، لكن المشكلة تكمن في أن المسار الاقتصادي الحالي للمنطقة سيجعل بيئاتها السياسية أسوأ على الأرجح.
وكما أثبتت أمريكا الجنوبية بالفعل، نادراً ما يؤدي عدم الاستقرار السياسي إلى التفكير طويل المدى اللازم لاستدامة التنمية.
لذلك، ثمة دروس مهمة لجنوب شرق آسيا من صعوبات أمريكا الجنوبية، خاصة وأن أوجه التشابه بين المنطقتين آخذ في الازدياد.
والسؤال الأساسي هو ما إذا كانت دول جنوب شرق آسيا ستتعامل مع هياكلها الصناعية، ما يؤدي إلى توسيع أوجه التفاوت والبيئات السياسية غير المستقرة بنجاح أكبر من نظيراتها في أمريكا الجنوبية.
وحتى الآن، فإن الأدلة ليست واعدة، خاصة أن بعض الاتجاهات أصبحت أكثر رسوخاً.
وبنفس الطريقة التي كافحت بها أمريكا الجنوبية في ظل الولايات المتحدة، تواجه جنوب شرق آسيا نظرة مستقبلية صعبة مثل التفوق الاقتصادي للصين، وهذا ينعكس بالفعل في الأداء الاقتصادي المختلف.
فبلغ نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي الإندونيسي المقوم بالدولار 87% من النسبة التي سجلتها الصين في عام 2000 لكنه عادل 37% فقط من النسبة المسجلة في عام 2020، بينما انخفض نصيب الفرد في تايلاند من 164% إلى 61% خلال الفترة نفسها.
وهذا لا يعني أن المنطقة لن تحقق النمو الاقتصادي، ففي ظل المسارات الحالية ستستمر في التقليل من أداء الصين وستكافح لتحقيق الزخم الاقتصادي الضروري للهروب من فخ الدخل المتوسط على المدى الطويل.
وإذا أردنا تجنب مثل هذا المصير، فإن الدول في جميع أنحاء المنطقة بحاجة إلى التعلم من أمريكا الجنوبية واتخاذ الإجراءات اللازمة الآن.